الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

ملاحظات حول كتاب العلاج النفسي والعلاج بالقرآن للدكتور طارق بن علي الحبيب

د. حسين العبري:-- المحتويات: (1) تمهيد.
(2) ملاحظات على الفصل الثاني: الرقية. (3) ملاحظات على الفصل الثالث: الصرع والمس. (4) ملاحظات على الفصل الرابع: العين. (5) ملاحظات على الفصل الخامس: السحر. (6) ملاحظات على الفصل السادس: مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي. (7) أحاديث غريبة. (8) رؤية عامة.
هذه ملاحظات على كتاب: العلاج النفسي والعلاج بالقرآن: رؤية طبية نفسية شرعية، للدكتور طارق بن علي الحبيب. والطبعة التي عليها اعتمادي هنا هي طبعة عام 2010م، عن مؤسسة حورس الدولية للنشر، في مصر.
الدكتور طارق بن علي الحبيب هو طبيب نفسي، وهو حسب ما ورد على غلاف الكتاب: استشاري طب نفسي، وأستاذ مشارك، ورئيس قسم الطب النفسي في كلية الطب والمستشفيات الجامعية بجامعة الملك سعود بالرياض بالمملكة العربية السعودية.
وله العديد من الأبحاث العلمية المنشورة محليا وعالميا، وهو عضو في العديد من المجلات الطبية النفسية الأخرى، وله العديد من المؤلفات.
يتكون الكتاب من ستة فصول:


الفصل الأول: تاريخ الطب النفسي. وهو فصل مستمد من كتاب سابق للمؤلف بعنوان: لمحة موجزة عن تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين.
الفصل الثاني: الرقية
الفصل الثالث: الصرع والمس
الفصل الرابع: العين
الفصل الخامس: السحر
الفصل السادس: مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي. وهو فصل مستمد من كتاب سابق للمؤلف بعنوان: مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي.
ملاحظاتي على الكتاب لا تشمل الفصل الأول، وتشمل جزءا يسيرا من الفصل الأخير. فالفصل الأول مبحث تاريخي، والفصل الأخير محاولة لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الطب النفسي في عالمنا العربي. وهذه المفاهيم لا تمت بصلة قوية لعنوان الكتاب ومبحثه الرئيس إلا في مفهومين.
والحق أن عنوان الكتاب يوقع اللبس في قارئه؛ فالعنوان الرئيس: العلاج النفسي والعلاج بالقرآن، والعنوان الفرعي: رؤية طبية نفسية شرعية، يوحيان أن المؤلف سوف يناقش العلاقة بين نوعي العلاج، النفسي من جانب، والعلاج بالقرآن من جانب آخر، عند علاج الأمراض النفسية. لكن الذي يقوم به المؤلف حقا أنه يستعرض في الفصل الثاني الأدلة "الشرعية" على العلاج بالرقية "الشرعية" (العلاج بالقرآن) ثم يورد في الفصول التي تليه بعض مسببات الأمراض التي تستوجب العلاج بالرقية، وهي صرع الجن، والمس، والعين، والسحر.
بالتالي يمكن القول أن لب الكتاب هو رؤية شرعية حول ما يرى المؤلف أنه من مسببات الأمراض النفسية والعضوية، أعني بها المسببات الغيبية: الجن والسحر والعين والمس.
أما الرؤية الطبية فتظهر في مقاطع متفرقة، هي:
• الصرع العضوي، وفيه يستعرض المؤلف معلومات طبية عن مرض الصرع تنتمي لطب الأعصاب.
• الصرع النفسي، وفيه يستعرض المؤلف معلومات طبية تنتمي للطب النفسي.
• التفسير الطبي لأثر الخنق أثناء الرقية.
• التنويم المغناطيسي، والمؤلف يعلل التطرق إلى هذا الموضوع أنه مناسب الحديث عنه حين الحديث عن أثر الإيحاء في العلاج.
والمؤلف في الكتاب يحاول طرح رؤية توفيقية بين النظرة الشرعية، السلفية تحديدا، في موضوع تأثير الجن والسحر والعين والمس في الإنسان بإمراضه عضويا ونفسيا، وبين الطب النفسي الحديث، لكنه في رأيي يفشل في هذه المحاولة.
وللتدليل على رأيي هذا أكتب هذه الملاحظات مستعرضا بداية أقوال المؤلف في فصول الكتاب متبوعة بملاحظاتي التفصيلية بعد كل قول، ومن ثم عارضا رؤيتي الكلية حول الكتاب وحول موضوعه.
ملاحظات على الفصل الثاني: الرقية
يفرد مؤلف الكتاب مقطعاً لمناقشة السؤال الآتي: "هل يمكن إثبات أثر العلاج بالقرآن من خلال البحث التجريبي؟" (طارق الحبيب، كتاب العلاج، ص 64)
وهذا سؤال مهم جدا؛ فالعلاج شيء كمي محسوس عادة. فإن جاء من يدّعي أن دواء معينا له أثر شفائي على مرض ما فإنه يجب علميا أن يُخضَع ذلك الدواء للبحث التجريبي ليُتأكَّد من فعاليته في الشفاء. وقد تطورت تجارب اختبار الأدوية والعلاجات وتحديد فعاليتها.
يقول المؤلف: "في نظري أنه من المتعذر إثبات ذلك بالمعايير المعروفة في البحث التجريبي وذلك لأن من أصول البحث التجريبي أنه عند دراسة متغير ما (variable) فإنه يجب تثبيت جميع المتغيرات الأخرى. ولذلك فإنه عند دراسة أثر العلاج بالقرآن (متغير) في نفع مريض ما، فإن على المريض أن ينقطع عن الدعاء وفعل الصالحات والصلاة وغيرها من شرائع الدين (متغيرات أخرى)، لأنها بذاتها لون من ألوان العلاج كما وردت النصوص بذلك وهذا أمر غير مقبول لأنه يخرج الإنسان من الإسلام." (الكتاب، ص 64)
نعم، يجب أن تُثبَّت المتغيرات الأخرى المؤثرة على مرض ما في سبيل معرفة هل نتج التغير من المتغير المراد دراسة فعاليته. ولكن من المعروف تماما أنه في العالم الواقعي (غير المختبري) فإن ذلك شبه مستحيل. فتصوّرْ أنه يراد معرفة مدى تأثير الجلسات النفسية على مريض الاكتئاب، فإنه يجب نظريا أن لا يُمنَع المريض فقط من أخذ الأدوية المضادة للاكتئاب، بل أن يُمنَع أيضا من أن يأكل طعاما قد يؤثر سلبا أو إيجابا في اكتئابه، وأن يُمنَع من الحديث مع أقاربه ومن يُحِب لئلا يتأثر بكلامهم، وأن يُمنَع من التعرض لضوء الشمس لأن ذلك يؤثر على الاكتئاب، وهلم جرا. لكن مع كل هذه المتغيرات الغير قابلة للضبط الدقيق تقام التجارب بأكبر قدر ممكن من الضبط لهذه المتغيرات. ويمكن التحكم بالمتغيرات الأخرى بأن تكون عينة المرضى التي تقام عليهم التجربة أكبر ما تكون حتى تقل سطوة المتغيرات. وأن تكون عينة المرضى متقاربة من حيث المتغيرات الأخرى. فالرأي بتعذر ضبط المتغيرات الأخرى أمر مردود عليه. بل ينبغي أن يُخطَّطَ لتجارب من هذا النوع لكي يعرف الجميع مدى فعالية الرقية أو أي طريقة أخرى في علاج مرض معين. والشيء الجيد في موضوع العلاج بالقرآن أن من يقول به يقول أنه يشمل الأمراض العضوية والنفسية، بالتالي فإيجاد عينات كبيرة من المرضى ليس بالأمر الصعب.
ويستمر المؤلف قائلا: "إضافة إلى ذلك فإن نفع القرآن في العلاج أمر ثابت بنصوص الكتاب والسنة، فكيف نسعى في إثبات أمر مطلق قطعي ثابت (العلاج بالقرآن) غير قابل للتغير من خلال أمر نسبي ظني (البحث التجريبي) وهو الأمر الذي قد يعتريه التغير، ثم أيضا كيف نسعى في إثبات ما ورد عن الخالق سبحانه بالنص الصريح من خلال عرضه على جهود المخلوقين ومعاييرهم، ولذا فلعل الأحرى بالباحث المسلم أن يراجع منهجه في البحث التجريبي في مثل هذه المسائل". ( الكتاب، ص 64)
إن نفع العلاج بالقرآن لا يكون بما يُقال في نصوص الكتاب والسنة بل بمعرفة هل خف مرض المريض أو زال أم لم يحدث ذلك؛ فنحن أمام أمر محسوس. وإن كان الشفاء المقصود هنا هو الشفاء من الأمراض فعلينا فعلا أن نقيم التجارب لإثبات صحته. فما يضيرنا شيء ما دام معنا نصوص ثابتة قطعية. بالعكس أرى أن عدم فعل ذلك يدل على شكنا في ثبوتية وقطعية ما لدينا. فإن كان لدينا أمر فيه صلاح الناس وصلاح البشرية فإنه من غير المناسب أخلاقيا حبسه عن الآخرين. والآخرون سواء أكانوا مسلمين شاكين أو غير مصدقين بشفاء القرآن للأمراض، أو غير مسلمين أصلا، لن يقتنعوا بشفاء القرآن من خلال معرفة أن هناك نصوصا تاريخية تقول بذلك، بل برؤية أبحاث علمية مؤصلة تثبت ذلك وتؤيده.
ويستمر المؤلف: "ويخالف هذا الرأي معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (في تعليقه على هذا الكتاب) حيث يقول: يجب بحث الأمر مع المنهج العلمي عن طريقين:
1. استعمال القرآن في الرقية على غير مسلم أو ملحد.
2. أن الرقية تنفع غير المسلمين بالقرآن وبكتبهم ورقاهم ما لم تكن شركا ويكون الشفاء من الله وقد يكون فيها شرك ويكون الشيطان هو الذي عمل المرض لتتعلق القلوب بغير الله (انتهى كلامه حفظه الله)". (الكتاب، ص 46)
وانا أتفق مع الشيخ صالح هنا في إيجاده لآلية يمكن من خلالها البدء بالبحث بالمنهج العلمي في فعالية القرآن على شفاء الأمراض. وهي آلية واحدة، وإلا فإني لا أرى أصلا أن هناك عائقا يجعل من انتهاج منهج البحث العلمي في العلاج بالقرآن يُخرِج المريض عن ملة الإسلام كما يقول مؤلف الكتاب.
ويستمر المؤلف: "ومهما قلنا وزيادة فإن العلاقة بين العلاج بالقرآن والأثر الحاصل عملية معقدة، ولا يمكن القطع بأن الشفاء لذلك المريض بعينه قد حدث من القرآن وليس من الدعاء أو الذكر أو أيضا من التأثير النفسي للراقي في نفس ذلك المريض". (الكتاب، ص 65)
وهذا كلام غريب؛ فنحن نعرف أن كل شيء معقد فيما يختص بالحياة والعلم والمرض والشفاء، والبحث العلمي لم يُخترَع أصلا ويُطوَّر إلا لحل هذه التعقيدات ومحاولة الوصول إلى علاقات أبسط. وعدم القطع بالشفاء بسبب القرآن لا يعني إلا أنه يجب أن نشك في فعاليته في شفاء الأمراض. ثم إنه بداية فلا بأس أن يُؤتى بكل هذه: العلاج بالقرآن والدعاء والذكر، وحتى تأثير الراقي، أن يُؤتى بها مجتمعة ويُبحَث هل تفيد أم لا في العلاج، ثم بعدها تُخترَع الآليات لفصل بعضها عن بعض، كأن يختفى الراقي عن المريض لكي لا يتأثر به، أو يكون الراقي غير معروف للمريض ولا مشهورا لديه.
ويستخلص المؤلف في مقطع: "متى تشرع الرقية؟" التالي:
"ومن ذلك كله يتبين لنا خطأ من يسأل- حينما يصيبه مرض- هل أنشد الرقية الشرعية أم العلاج المادي؟!! وكذلك خطأ من يظن - من الرقاة - أن الرقى الشرعية لا تنفع حال استخدام بعض الأدوية !! وكذلك خطأ كثير من الناس الذين لا يلجؤون لعلاج عللهم العضوية بالقرآن إلا عندما لا ينفع العلاج بالدواء، فالأصوب في كل ما أسلفنا المبادرة في الجمع بين القرآن والدواء". (الكتاب، ص 71)
أرى من حق المريض ان يسأل: إن كان العلاج المادي مفيد والعلاج بالقرآن مفيد بذات الدرجة فلماذا ينبغي عليّ أن أتعالج بالأمرين معا؟ فالعلاج بالقرآن حسبما يراه المؤلف ليس علاجا مساعدا، وليس طمأنة للنفس، بل هو دواء مثله مثل الأدوية الأخرى ومثل الجلسات النفسية. ونحن نعرف في الطب النفسي، وفي الطب عموما، أنه يجب البداية بدواء واحد ما أمكن ذلك، والبدء بالدواء الأكثر مناسبة، ويمكن الاعتماد على دواء آخر أو طريقة علاج أخرى مع الدواء كعلاجات مساعدة. لماذا ذلك؟ لأن هناك تفاعلات بين الأدوية ذاتها وبين الأدوية وطرق العلاج الأخرى. ولذا من الطبيعي أن يُجاب بدايةً عن السؤال: ألا يوجد تعارض بين الطريقتين: العلاج بالقرآن والعلاج المادي؟ أم أن إحداهما تساعد الاخرى؟ وكيف يكون ذلك؟ وحتى دعونا من كيف، فإن كانت تفعل حقا من غير ضرر فلم لا. المشكلة هنا تكمن فقط في أننا لا نعرف كيف يُعالِج القرآنُ المريض حتى نعرف هل الأدوية تتوافق معه أم تتنافر.
من ناحية أخرى فالمشكلة واقعة لأن هناك نظامين للعلاج: علاج شرعي وعلاج وضعي. والعلاج الشرعي يستند في فعاليته على نصوص مقدسة بينما يستند العلاج الوضعي على التجربة العلمية والبحث. يقوم الراقي بالعلاج الشرعي بينما يقوم الطبيب بالعلاج الوضعي. وبالتالي الدمج بين العلاجين يجب أن يكون بطريقة مؤصلة. فلو كان العلاج بالقرآن علاجا بديلا فإن العلاج بالأدوية عند الأطباء يصبح هو العلاج الرئيس، وعليه سيلجأ المريض إلى الراقي للمساعدة، بل حينها فإن الطبيب نفسه قد يُوجِّه المريض إلى الراقي. ولو كان العلاج بالقرآن هو العلاج الرئيس فإن الراقي هو المعالج الرئيس، وهو من سيوجه المريض إن احتاج مساعدة طبية إلى الطبيب. وعلى العموم يبدو مع عدم وجود فصل وتأصيل لطريقة العلاج بالقرآن أن المرضى عادة هم من يختارون الطريقة التي تناسبهم فيتجهون بداية إلى من يظنونه الأنسب في كل مرض.
أما في مقطع "مشروعية النفث عند الرقية"، فيقول المؤلف بعد استعراض أدلة مشروعية النفث:
"وقد يشمئز بعض الناس من التفل وينتقد ذلك، وقد يرفض هذا النوع من العلاج بسبب اشمئزازه ولذا وجب تنبيههم إلى عدة أمور:
1. أن التفل ليس هو البزاق، بل أقل منه.
2. أن دين الله لا يؤخذ بالأذواق والعقول.
3. أشار عدد من السلف والخلف أن بركة القرآن تنتقل من خلال رطوبة ريق الراقي.
4. أن في الأمر سعة فمن السلف والخلف- كما ذكرنا- من يرى النفث بلا ريق.
5. أن بعض وسائل العلاج الطبية الحديثة يمارس فيها شيء أشد من التفل ولم ينتقد ذلك أحد نظرا لثبوت نفعها، بل ضرورة استخدامها، وإلا تعرضت حياة المريض للموت، إلا أن يشاء الله، مثل ما يحدث في الإنعاش القلبي الرئوي، حيث يجب على المسعف دفع الهواء في فم المصاب من فمه مباشرة، وهو الأمر الأكثر مباشرة من التفل الخفيف أثناء الرقية الوارد في بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة فيحسن بالراقي أن يكون أكثر اتباعا فينفث فيما ورد فيه النفث، ويترك النفث فيما لم يرد فيه نفث". (الكتاب، ص 91)
وطبعا هذا أمر متفق عليه أن دين الله لا يؤخذ بالأذواق، لكننا يجب ان نتأكد بدايةً: هل الأمر حقا من دين الله، وخصوصا إذا أثار الاشمئزاز عند الناس في عصرنا؟ والناس تشمئز من هذا الموضوع لا لأنها فقط أصبحت حساسة في عصرنا لمثل هذه المواضيع، بل كذلك لأننا نعرف أن الله جميل يحب الجمال، وأن الإسلام دين نظافة، فحين يأتي أمر فيه شيء من اشمئزاز فمن حق الناس أن تتساءل كيف ولماذا؟
أما أن السلف قد أشاروا بأن بركة القرآن تنتقل من خلال رطوبة ريق الراقي، فهذا أمر أجده منكرا فلا يوجد في القرآن ما يدل على أنه يحتاج فيه إلى ترطيب بطريقة أو بأخرى لكي تنتقل بركته بين شخص وآخر.
اما الاستدلال بما يحدث في الإنعاش القلبي الرئوي فهنا مقارنة غير عادلة، فالحالة في الإنعاش هي حالة طارئة، وعند الضرورات تباح المحظورات. فبداية نحتاج فعلا أن نعرف أن التفل شيء جوهري فاعل في العلاج، ثم نحتاج إلى معرفة أن الحالة طارئة قد تُعرِّض حياة المريض للخطر إن لم يتفل فيه، وحينها فقط يصبح التفل أمرا متقبلا.
ويقول المؤلف، في مقطع "حكم من أضر بمريض أثناء الرقية":
".. أما الأضرار غير المحسوسة مما لا يمكن قياسه مثل إيهام بعض المعالجين بالقرآن المريض بأنه مسحور أو معيون دون ان يكون عند الراقي ما يثبت به قوله مما يؤدي بالمريض إلى الدخول في دائرة من الوهم والشك باحثا عمن سحره أو عانه فهذه الأضرار إن أمكن إثبات شيء منها فللقاضي تعزيره بما يراه محققا للعدالة وبما يحقق الردع لأمثاله.
والمشكلة في ذلك أنه نتيجة لتلك الأوهام فإن المريض يبدأ بالشعور باضطرابات نفسية وعضوية تتمثل في القلق والخوف والاضطرابات المعوية، واضطراب نبضات القلب وكذلك ضعف قواه الجنسية مما يجعله يربط ذلك ربما بالسحر فيزيد من تلك الأوهام والاعتقادات الخاطئة.
وللحق أقول: إنه قد يحدث العكس أحيانا، فبعض ذوي الشخصيات القابلة للإيحاء قد يهدؤون أحيانا حينما يتم تشخيص إصابتهم بالعين وإقناعهم أنها تستجيب للرقية. ولقد لاحظت ذلك عند بعض المرضى لكنه مع المتابعة تبين لي أنه مجرد تحسن مؤقت مرده غالبا إلى التفاعلات النفسية في نفس ذلك الفرد ذي الشخصية القابلة للإيحاء، ولذلك فأنه سرعان ما ينتكس وإذا تمت رقيته ثانية فإنه قد لا ينتفع كما انتفع بها أول مرة." (الكتاب، ص 101-102)
هنا نعود لذات المشكلة: إمكانية إثبات الضرر. والحق أننا لا نستطيع أن نثبت أي شيء هنا: لا النفع ولا الضرر، جراء العلاج بالقرآن. ذلك لأن الامر غير مؤصل بطريقة منهجية علمية، ولا هو قائم بطريقة يصح فيها النظر بهذه الطريقة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل دواء له أثر سيء أيضا، ولذلك يستطيع الراقي أن يطرح كل التعليلات التي يطرحها الطبيب النفسي حين لا ينجح علاجه بدواء ما. فقد يقول الراقي أن المعالجة ما تزال في بدايتها وأن ما يشهده المريض ما هو إلا المرحلة الأولى من تفاقم المرض جراء إثارته الأولى بالعلاج وهو ما يحصل أحيانا أثناء جلسات العلاج النفسي التحليلي. أو قد يقول أن مرضه مستعص وهو إنما يتطور مع الوقت حتى مع وجود العلاج، وذلك يحدث في أحايين كثيرة في العلاج بالأدوية؛ فقد يُبدَأ بالعلاج وصورة المرض لم تتوضح بعد بكامل أعراضها، فحتى لو أُعطِي المريض الدواء فإن التاريخ الطبيعي للمرض من شأنه أن يوصل الأعراض إلى زخمها بعد وقت من بداية المرض.
وما يذكره المؤلف عن الشخصيات القابلة للإيحاء أمر جدير بالملاحظة؛ فهؤلاء قد يكونون هم المستفيدين الأكثر من العلاج بالرقية.
وفي مقطع "سلبيات وعواقب تشخيص بعض الرقاة لمرضاهم"، يعدِّد المؤلف "بعض السلبيات الحاصلة من تشخيص كثير من الرقاة كل من يدخل عليهم:
1. إنه قول بلا علم واعتماد على الظن في تقرير أمور غيبية.
2. إن التشخيص الخاطئ وحتى الصحيح قد يغرق المريض في الوهم، وقد تنفع الرقية بإذن الله في شفاء علته من العين أو خلافها، لكن يبقى عنده الوهم الذي قد يضر به أكثر من العين. فلذلك لو تجنب الراقي التشخيص واستبدل ذلك بتقوية يقين المريض بالله وبنفع الآيات والأدعية لكان خيرا له. ولماذا الحرص على تقدير تشخيص ما إذا كان العلاج بالرقية أيا كان التشخيص، رغم أننا ندرك أن معرفة العائن أو مكان السحر هو خطوة مهمة لكنها غير ممكنة في كل الأحوال، بل نادرا ما يمكن ذلك، والذي قد يتم أحيانا بطرق غير شرعية.
3. قد يؤدي تشخيص بعض الرقاة لمرضاهم بالعين أو السحر بشكل خاص دون تقديم علاج ناجع فعال إلى أن يطلب بعض الناس العلاج عند السحرة والمشعوذين.
4. قد يؤدي إلى الإغراق في تشخيص السحر والعين وأثر الجن إلى انتشار الاعتقاد لدى كثير من بسطاء الناس في الأوهام والأساطير والمبالغة في تعليل حركاتهم وسكناتهم بأنها مرتبطة باثر الجن أو السحر أو العين مما يؤدي إلى زعزعة معنى الإيمان عند الناس.
5. إن هذا الأمر قد جعل بعضا من الناس يهزؤون بالرقاة ويجعلونهم محطا للنكتة والسخرية". (الكتاب، ص 115)
وهذه بحق سلبيات صارخة، وهي ناتجة في رأيي من طبيعة الأمر الغامضة. وحين نقول أن قولهم يعتمد على الظن في تقرير أمور غيبية، فإننا ندرك إذن ان الأمر غيبي، فإن كان غيبيا فكيف يتمكن بشري من معرفة الغيب أصلا؟ أما عن أمر التشخيص فالتشخيص الخاطئ في هذا المقام لا ينتج من قلة دراية بل من غموض الموضوع؛ فليست هناك معايير تحكم تشخيص الرقاة، ولذا يقول كل راق ما يريد. ولا ينفع في قول الراقي الاحتكام إلى طرف ثالث فهو تشخيص بالظنة. ولذا يقترح مؤلف الكتاب اقتراحا اجده غريبا بعض الشيء لأنه يصدر من طبيب، فيقول للرقاة دعوكم من التشخيص لكن قووا يقين المريض بالله وبنفع الآيات والأدعية، وفي نظري أن المؤلف يُجحف في حق الرقاة هنا؛ فالأوْلى أن يطلب منهم تشكيل هيئة أو مجموعة باحثين يؤصِّلون الموضوع علميا بالتجربة والعلم الطبيعي، ويحددون المعايير المضبوطة للتشخيص. وهنا شبه اعتراف من مؤلف الكتاب أن التشخيص حقا في مثل هذه الأمور غير مجدٍ، وقد يصح هذا في الأمراض التي يقول عنها أن تحدث بسبب العين او السحر لكن ماذا عن الأمراض العضوية التي هي أيضا من ضمن عمل الراقي. أما ما يحصل من الإغراق في الأوهام والأساطير فوارد جدا لكن أين يجب أن نضع الخط الفاصل إذا كان الأطباء أنفسهم (المؤلف مثلا) يقولون أن الأمراض العضوية يمكن أن تحدث بسبب الجن والسحر والعين ونحوها من أمور غيبية؟
وهنا أجد مناسبا أن أوجه عناية القارئ الكريم إلى لغة المؤلف في الكتاب، فهو يقول: تشخيصات بعض الرقاة. يحرص كثير من الرقاة. التشخيص الخاطئ قد يجعل. فقد تنفع الرقية. قد يضر. لو تجنب الراقي. قد يؤدي التشخيص. يطلب بعض الناس. قد يؤدي. قد جعل. بعضا من الناس. وهذه اللغة هي ديدن الكتاب كله، فالكتاب حسبما سأشرحه لاحقا قائم على الرغبة في التوفيق بين منظومتين، منظومة الرقاة ومن ورائهم علماء الدين والفقهاء، ومنظومة الأطباء ومن ورائهم المنهج العلمي في البحث.
وفي مقطع "عيادات العلاج بالقرآن الكريم" يقول المؤلف، بعد أن يورد سلبيات وإيجابيات إنشاء عيادات للعلاج بالقرآن، يقول أنه يمكن عمل ما يلي:
"(1)الاتفاق على البعد عن أي خطوة تسعى إلى تصنيف العلل الروحية إلى سحر وجان وعين، لأن ذلك لا يمكن القطع به وقد سُحر سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يَعلم أنه مسحور إلا حينما جاءه الخبر من عند ربه فكيف يعلم غيره من البشر؟ إضافة إلى أن ذلك قد يؤدي إلى حدوث أثر نفسي بالغ يعتري المريض حينما يبلغه أنه مصاب بشيء من تلك الأمور الغيبية. ويزداد عدم فائدة ذلك إذا علمنا أن علاج كل تلك الأمور الغيبية- إلا في احيان نادرة- هو بالقرآن فما الفائدة إذا من التشخيص؟" (الكتاب، ص 122)
سأرجئ قليلا الكلام حول مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم. ولنتأمل في هذا الكلام الخطير، فإنه ينسف معرفة الراقي بالعلل الروحية، أي أن الرقاة حسب رأي المؤلف لا يستطيعون أصلا معرفة أن بالمريض سحرا أو جانا أو عينا. وإذن ما الداعي لعلاجهم أصلا؟ والحق أن طلب المؤلف من الرقاة الابتعاد عن التصنيف ووضع كل الأمراض في مجموعة واحدة، هذا الطلب إما تقليل من مكانتهم أو الإشارة من طرف خفي إلى أن هذه الأمراض غير مقدور على القول الفصل في وجودها حسيا في المرضى.
"(7) عدم قبول أي مريض للمعالجة في هذه العيادات دون أن يتم تقييمه طبيا. وبهذه الطريقة نستطيع توظيف إيمان الناس بالرقية الشرعية - وهو حق- في تشخيص عللهم الأخرى وعلاجهم وتوجيههم بطريقة صحيحة يجتمع فيها نفع الطب الحديث مع بركة العلاج بالقرآن". (الكتاب، ص 124)
وهذا اقتراح غريب، فهو يحمل معنى ضمنيا أن الرقاة يخطئون كثيرا، وأنه لأننا غير قادرين على أن نوقفهم فلا بد بداية أن يمر المريض على الطبيب ويُقيَّم طبيا، وحين يوجد أنه ليس به شيء من الأعراض المرضية التي تخص الطب يُوجَّه حينها للعلاج بالقرآن. وهذا يدل مرة أخرى على أن المعالجين دورهم سلبي، وأنهم يؤخرون وصول المريض إلى الطبيب، وأنهم أصلا لا يجب أن يتدخلوا في العلاج وخصوصا علاج الأمراض العضوية التي يمكن أن تُقيَّم طبيا ويُثبَت وجودها من عدمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق