الخميس، 7 مارس 2013

المبدأ القرآني في بناء الإنسان والحضارة (1)

يوم كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقيم حياتها على أساس الإيمان بالله، ودعوة الناس إلى الإيمان قولاً وفعلاً بالحكمة وبكل وسائل الدعوة الحسنة.

وكان المسلمون في ذلك يستجيبون لأمر الله الذي يخاطبهم كأمة تمثل الوسطية والشهادة على الناس، ولم يُعرف في تاريخنا أن الخطاب الإسلامي اتجه لجماعة أو هيئة أو جامعة أو مدرسة... كما لم يعرف أن هناك طبقة بعينها تتخصص في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، وأن الطبقات الأخرى لا علاقة لها بالدعوة ونشرها.. بل الذي عُرف وآمن به الناس أن هناك متخصصين في العلوم الشرعية يسمون (العلماء) أو (الفقهاء) وهم الذين يملكون مؤهلات التعليم المستوعب، لعلم من العلوم لا سيما الفتوى في الفقه، والتبصير بحقائق التفسير، وتوجيه الأمة إلى الحديث الذي صحَّ عن رسول الله، أو الحديث الذي لم يصح، أو الحديث الذي صح رواية وسندًا ولم يصح دراية ومتنًا، أو العكس.

أما شأن الهّم الدعوى الإسلامي فهو شأن الأمة كلها، وهو هَمُّ مهندسها وطبيبها وعالمها الاجتماعى والنفسى، بل هو كذلك همّ الزراع والصناع والتجار كل حسب طاقته من الفقه بالإسلام، والقدرة على تمثيله قولاً وعملاً؛ فالدعوة بالقول والعمل، والنفس والمال والعلم.

ولم يعرف كل هؤلاء أن همّ الدعوة إلى الله ونشر الإسلام هو شأن خاص بالرجل، أو المرأة، أو المثقف وغير المثقف بالمعنى الثقافى المعروف. كما لم يعرف هؤلاء أن نشر الإسلام ودعوة الناس إليه إنما يعنى فقط تربية الناس على العبادة لله والإخلاص لدينه، والتوحيد الكامل به والالتزام بعقائده وأخلاقه!!

وإنما عرفوا أن كل ذلك تندمج فيه هذه القيم الربانية والأخروية بوسائل تؤدي إلى بناء الحياة الدنيا، وتفعيل جوانبها المختلفة وفق منهج الله للحياة.. فما يقوم به المسلم من تحقيق (الصلة بالله) إلا ليحسن تحقيق (الصلة بين الناس) أفرادًا وجماعات، وبذلك تصبح التعليمات المتصلة بالآخرة تنظيمًا وتكييفًا للتعليمات التي يجب أن تسود في الدنيا؛ وذلك كي يبني الناس منهاج حياتهم بناءً تمتزج فيه الدنيا بالآخرة، وتنجح تعليمات الآخرة في تكييف أركان الدنيا تكييفًا إيمانيًّا، وتمدها بالوقود الذي يحقق لها الصلة المثلى بالله، والسعادة وبناء الحضارة الإنسانية القويمة اللائقة بإنسانيته في هذه الدنيا!!

فما جاء الإسلام (لاهوتًا) يُريد من الناس أن ينسوا دنياهم، وأن يعيشوا في (ملكوت السماء)، وإنما جاء الإسلام مُعلِّمًا للناس كيف يعيشون في الدنيا بقيم السماء، محققين التواصل الكامل (الذي عجزت عنه كل الأديان) بين الدنيا والآخرة، وهذا يتجلى في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وحتى المساجد (وهي بيوت الله) التي ينصرف الذهن إلى أنها متخصصة في العبادة.. حتى هذه البيوت (بيوت الله) اجتمعت فيها التربية الإيمانية الأخروية الروحية والوجدانية، والتربية العملية الدنيوية القائمة على حُسن التكامل مع التربية الأخروية.

ولهذا رأينا في بيوت الله عالم التفسير، وعالم الحديث، وعالم الفقه والأصول، يتجاور في بيت الله نفسه مع عالم الفيزياء والفلك والطب والهندسة وغيرها.. وكل من هؤلاء وأولئك من علماء الدين وعلماء الدنيا يؤمنون بأنهم يتعبدون لله بكل ما يقدمونه من علوم دينية ودنيوية وطبيعية في سبيل بناء حياة يرضى الله عنها، وتتحقق للمسلمين بها آفاق التقدم والنهضة والحضارة التي تضمن لهم السعادة في الدارين، وتحقق القدرة على منافسة القوى العالمية في عصورهم.
الفصام المدمر

ثم وقعت الواقعة، فظهرت عصور غلبت فيها العلوم التي تسمى (بالعلوم الأخروية)، وانسحبت -تقريبًا- العلوم التي أطلقوا عليها -ازدراءً لها وحطًّا من شأنها- مصطلح (العلوم الدنيوية).

وعندما جاء عصرنا الحديث ظهر قادة النهضة وهم يحملون هذه الأفكار المزدرية للعلوم الدنيوية، والتي تنصرف فيها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] إلى العلوم العسكرية، وما يتصل بالجهاد من قوة نفسية ومعنوية.

بل اتجه بعضهم إلى أن نصر الله I ورضاه يتحققان -فقط- بالجهاد الحربي وتحصيل العلوم الشرعية، لدرجة أننا منذ نحو خمسين سنة تفشت في شبابنا ظاهرة سلبية أسيفة.. فقد وجدنا بعض الشباب المتدين يجنح إلى العلوم الشرعية، بعد أن يكون قد تفوق في تخصص من التخصصات العلمية مثل الصيدلة والكيمياء والطب والفيزياء والهندسة، ومع ذلك يترك كل ذلك، وينصرف إلى دراسة العلوم الشرعية مدَّعيًا أنها التي ستنصر الإسلام، وتحقق رضا الله وحدها، مُهمِلاً ما حصل عليه من شهادات في النواحى العلمية. وقد أصبحت هذه الظاهرة السلبية في فترة ما، أفيونًا مخدرًا مبددًا لطاقة الأمة.
تجربة شخصية

ويحكى الأستاذ الدكتور (سيد دسوقى حسن) أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة (كلية الهندسة) تلك التجربة الشخصية الخاصة به فيقول:

كانت تتملكني الرغبة للدراسة في كلية الحقوق أو دار العلوم حين حصلت على الثانوية العامة، حتى لقيت أستاذًا لي في مجال الدعوة هو الأستاذ محمد يونس (رحمه الله تعالى)، فقال لي:

نحن في حاجة إلى مهندسين يصنعون لنا طائرات وصواريخ.. فكِّر في الهندسة، فذلك خير لك ولأمتك.

وكان أن توجهتُ إلى الهندسة التي لم تخطر لي على بال قبل ذلك، ثم إلى الطيران والصواريخ..!!

ويقول الدكتور أيضًا: نحن في حاجة ماسة إلى استنارة بطبيعة (الفروض الحضارية) حتى يتدافع إليها الناس، وحتى لا يتدافع ذوو التوجهات الإصلاحية والدعوية في بلادنا إلى أعمال تأتي في نهاية الخريطة، وينسون أعمالاً تأتي في أعلاها؛ لأنها فرض الكفاية الذي تحول فأصبح (فرض عين) في ظل الواقع المريض!! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق