الخميس، 14 فبراير 2013

تنبيه الغافلين عما ورد من الأقوال عن التصوف في كتاب مدارج السالكين














بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام علي إمام الموحدين،وسيد الأنبياء والمرسلين،جدالحسن والحسين،وعلي أصحابه الميامين،وآله الأكرمين،والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين.

أما بعد/

فهذه عجالة نمقتها إجابة لما طالب مني،ذلك الأح القدير،عبد الجليل صالح،حول ما دار بيني وبينه من الأقوال الواردة عن الصوفيين في كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإيااك نستعين)وقد سطرت هذه النميقة، بمنهج ثاقب،وأسلوب رصين، و قسمت محتوياتها، إلي أربعة محاور-المحور الأول:التمهيد،والثاني :انتقادات ابن القيم الجوزية لتصوف منهجه وأسلوبه،والثالث:ابن القيم ومباركة التصوف،الرابع: الخاتمة، وسميته (تنبيه الغافلين عما ورد من الأقوال عن التصوف في كتاب مدارج السالكين) لابن القيم الجوزية،وقد حاولت قدر الإمكان التجنب عن الإطناب الممل،والإسهاب المخل،راجيا من الله العلي القادر، التوفيق والسدد في نجاح هذه العملية،وأن يحقق لي أمنيتي فيها،والبلوغ إلي غايتي المقصودة،وأهدافي المنشودة،وأن ينتفع بها الطالب وغيره من الناس،وأن يقذف نور العلم والمعرفة في عقولنا،ويمحو ظلمة الجهل والبلادة والأمية عن أفكارنا،إنه نعم المولي ونعم النصير.









المحور الأول:

التمهيد

قبل الشروع في إيراد ما طلبت مني ،أود أن أذكرك بما كنا في صدده حتي لايحدث تحويل الأمر إلي ناحية أخري،أجل قلت لك في تعلقي السابق بأن تجنب التعميم في الكلام عند ما أردت أن تقول شيئا عن التصوف و الصوفيين، وخاصة المتأخرين الذي طالما تؤذيهم بلسانك،وتلحق الخزي والاستهزأ بهم ببنانك،و قلت لك في ذلك التعليق أن ترجع إلي الكتاب ذلك العالم الجليل،والشيخ النبيل، الإمام ابن القيم الجوزية- عليه رحمة الله،وهو (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، شرح كتاب منازل السائرين،لشيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ الصوفي الكبير أبوا إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الأنصاري الهروي)وذلك لتري كيف عالج الشيخ أمثال هذا الموضوع الذي خضت في غماره،دون رصيد كاف،وعلم شاف،حيث كان الشيخ منصفا في قضية التصوف والصوفيين،ولم يكن معمما الكلام مثلك، بل يجعل عباراته محددة،وكلماته مقيدة،ثم بعد ذلك قلت لي في ردك أن الشيخ لم يكن محبا التصوف والصوفيين،بل كان لهم عدوا لدودا طوال حياته،وكان له معهم موقف شديد،وأنك قرأت ذلك الكتاب الذي ذكرته لك في وقت مديد،ولم تجد فيه سطرا،أوكلمة،أوحرفا،بارك فيه ابن القيم الجوزية التصوف والصوفيين،والله ياعبد الجليل حديثك هذا ماهو إلا بهتان مبين،وافتراء عظيم، برىء منه كتاب ابن القيم براءة الذئب من دم ابن يعقوب-عليه الصلاة والسلام- وعلي تلك المقولة،يجب عليك أن تستغفر الله خمس سنين،لعل الله يقبل منك توبتك،علي الكذب المتعمد،لأن المعروف أنه لاجزاء له إلا اللعنة،وتب إلي الله إنه هو الغفور الرحيم،ولإدحاض حديثك الذي لايسمن ولا يغني من جوع سوف أذكر لك بعض الوقفات من كتاب(مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)تلك الوقفات التي نقد فيها الشيخ بعض مواقف الصوفيين الشنيعة،بعدل وانصاف دون التعميم في الحكم،أوتجاوز الحد من القاسطين إلي المقسطين،ثم أذكرلك وقفتين في نفس الكتاب بارك فيهما ابن القيم التصوف والصوفيين،ولن أنسي ذكر الصفحات التي أثبتت كلام الشيخ،ثم جزء الكتاب الذي تجد فيه ما سأقوله، ثم المحقق للكتاب وناشره،لتعرف أني قرأت الكتاب جيدا من المقدمة حتي الخاتمة،وأني لست كاذبا مثللك الذي تدعي قراته،مع أن الأمر خلاف ما تقره،وإلا لن تفتح فمك قائلا(لم يبارك ابن القيم التصوف يوما من الأيام و إنما عاش لهم عدوا لدودا.)وممكن قد تعني ابن القيم الجوزية الآخر،الذي ليس صاحب كتااب (مدارج السالكين)ودن التطويل الممل،والإطناب المخل، أدخل في صمييم الموضوع، وإليك البيان والتوضيح.



المحور الثاني:

انتقادات ابن القيم لتصوف منهجه وأسلوبه.

فقد سلك ابن القيم الجوزية في عملية النقد لجميع شطحات الصوفية المنهج الحكيم،والطريق القويم،حيث كان معلجا تلك القضية بأسلوب رصين،وتفكير ثاقب،حيث جعل الوسطية المضمار الذي يسعي عليه في مناقشة الموضوعات التي يريد تحليلها،وعلي هذا تقول الدكتورة رقية طه جابر الحلواني ﺃﺳﺘﺎﺫة ﻣﺴﺎﻋﺪة ﰲ ﻗﺴﻢ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﻦ في كتابها الذي أسمته (منهج ابن قيم الجوزية في تزكية النفس)( ﻓﻘﺪ ﺍﻣﺘﺎﺯ ﺍﺑﻦ ﻗﻴﻢ ﺭﲪﻪ ﺍﷲ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﺇﺻﻼﺣﻲ، ﻳﺪﻋﻮ ﺇﱃ ﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻭ ﺍﻟﺘﺪﺑﺮ ﰲ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ. ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻡ ﺑﻄﺮﺡ ﻗﻀﻴﺔ ﺇﺻﻼﺡ ﺍﻟﺬﺍﺕ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻧﻈﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﺬﺍﺗﻪ ﻭﺍﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺳﻴﺌﺎﺗﻪ ﻭ إﻋﻮﺟﺎﺟﻪ ﰲ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ، ﻭﻣﻦ ﰒﹼ ﺗﻠﻤﺲ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻭﺍﻻﳓﺮﺍﻑ ﰲ ﺍﻟﺬﺍﺕ ومعالجتها بحكمة ﻭﺭﻭﻳﺔ ﺗﺴﺘﺄﺻﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻣﺮﺍﺽ ﻭﺍﻷﺩﻭﺍﺀ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ،. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﻨﻮﻉ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ المطروحة ﰲ ﻛﺘﺒﻪ ﻭﻣﺆﻟﻔﺎﺗﻪ المختلفة، ﺇﻻ أنها تميزت ﺑﺎﻟﺘﻘﻴﺪ بمنهج لايحيد ﻋﻨﻪ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻗﺎﻃﺒﺔ. ﺫﺍﻙ ﻫﻮ ﻣﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﻤﺴﻚ المطلق ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺇﺧﻀﺎﻉ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ المختلفة ﻟﺬﺍﻙ ﺍالمنهج ﻭمعالجتها ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ وتحكيمه ﻓﻴﻬﺎ) انظر (ص-6-9-10).

وهذا هو منهجه وأسلوبه في دراسة القضايا المهمة من نواحي شتي،ويتبين من خلا ل ذلك أنه لم يكن عدوا،أو لدودا مع أية فرقة من الفرق الإسلامية أو غيرها كما يزعم جل طللبة العلم الكسالي الذين يطلقون علي الشيخ ألقابا لم يختارها لنفسه،بل المسلم له أن ابن القيم الجوزية – رحمه الله تعالي- كان منقحا لأغلاط الناس،ومصححا لأخطائهم،كما هو العادة عند سابقيه من العلماء،وعلي هذا نأخذ بعض الوقفات من كتابه (مدارج السالكين) نضرب بها مثلا ليتضح الأمر للجاهلين،لأن بالمثال يتضح المقال،ودونك ذلك:

الوقفة الأولي:

يقول أبو عبد الله ابن القيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين،مبينا أقسام الفناء ومراتبه،"وهذا القسم – يعني الفناء- يطلق علي ثلاثةمعان: 1- الفناء عن وجود السوي.2- الفناء عن شهود السوي،3- والفناء عن إرادة السوي ..... وأما الفناء عن وجود السوي: فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين ويعدونه غاية،وهوالذي بني عليه أبو إسماعيل الهروي الأنصاري في كتابه _منازل السائرين-) ويشرح ابن القيم هذا الكلام قائلا: (وليس مرادهم فناء وجود ما سوي الله في الخارج،بل فناؤه عن شهودهم وحسهم" إلي أن قال: " وهذا الفناء يحمد منه شيء،ويذم منه شيء،ويعفي منه شيء، فيحمد منه:فناؤه عن حب ما سوي الله،وعن خوفه،ورجائه،والتوكل عليه،والاستعانة به،والالتفات إليه،بحيث يبقي دين العبد ظاهرا وباطنا كله لله".

وأما عدم الشعور والعلم،بحيث لايفرق صاحبه بين نفسه وغيره،ولا بين الرب والعبد-مع اعتقاده الفرق-ولابين شهوده ومشهوده،بل ير السوي ولا الغير،فهذا ليس بمحمود.) ينظر مدارج السالكين)ص-124-125-الجزء-1-تحقيق-الشيخ محمد بيومي-الناشر:مكتبة الإيما بالمنصورة.

فتأمل أخي القاريء في انصاف الشيخ في تناول مقالة الشيخ الهرواي،حيث إنه أظهر ما فيها من الحسن والجودة،لينتفع به،من يرد به الله خيرا،ثم شرع في بيان مافيها من المعتقدات الساذجة ليتركها السالك ويحترز منها خوفا لخالقه وخشية منه،ثم بإمعان النظر إلي كلام الشيخ نجد أنه جعل عباراته محددة،وكلماته مقيدة،ويتضح ذلك في مثل قوله : (أكثر الصوفيةالمتأخرين) ولم يقول جميع الصوفية المتأخرين،ثم قوله: (وهذا الفناء يحمد منه شيء،ويذم منه شيء،ويعفي منه شيء،)وانظر إلي العدل والإنصاف الشديد،حيث نظر إلي كلام الإمام الهروي بعين الناقد المخلص،الذي اتسم بالهوية النقدية الصافية،لايشوبها خلل،ولا يلحق بها بلبال؛فأعطي كل مقال نصيبه دون جور وظلم، ولما فعل ذلك؟ لأنه أدرك أن مواقع الكلمات كمواقع النجوم،خلافا للبلاداء ممن سموا انفسهم عالما،والغفلاء من الطلبة الكسالي، الذين ينظرون إلي كل كلام صدر من الصوفيين بعين الحقد والحسد،مما جعلهم ينحرفون عن المنهج السوي،والأسلوب القوي،في تناول أقوال الصوفيين وحالهم،فيبدون قائلين عنهم،الأقوال السامجة،ويطلقون عليهم المصطلحات الساذجة،ويعممون الحكم فيهم،حتي اتخذواهم عدوا لأنفسهم،- سامحهم الله،ويتوب عليهم إنه هو التواب الرحيم.

الوقفة الثانية:

يقول الشيخ ابن القيم الجوزية-رحمه الله-في باب(الجمع)في نفس الكتاب،حينما بسط القول عما يسمي بالعلم اللدني،مبطلا في ذلك ادعاء طائفة من الفرق الضالة،فقال: (فملاحدة الاتحادية ،وزنادقة المنتسبين إلي السلوك،يقولون:إن علمهم لدني وقد صنف في العلم اللدني متهوكو المتكلمين،وزنادقة المتصوفين،وجهلة المتفلسفين،وكل يزعم أن علمه لدني،وصدقوا وكذبوا فإن (اللدني) منسوب إلي (لدن)بمعني عند)فكأنهم قالوا:العلم العندي،ولكن الشأن فيمن هذ العلم من عنده ومن لدنه،وقد ذم الله تعالي بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس عنده كمال قال تعالي(ويقولون هو من عند الله وما هومن عند الله ويقولون علي الله الكذب وهم يعلمون)وقال تعالي (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله).

وقال تعالي ومن أظلم ممن افتري علي كذبا أوقال أوحي إلي ولم يوحي إليه شيء) فكل من قال:هذا العلم من عند الله فهو كاذب في هذه النسبة فله نصيب وافر من الذم.) ينظر: (مدارج السالكين)ص-328-الجزء-3-تحقيق=الشيخ محمد بيومي-الناشر:مكتبة الإيمان بالمنصورة.

ونجد في هذه الوقفة كيف ضبط ابن القيم-رحمه الله- عباراته،وقيدها بطريق محكم،وأسلوب منسجم،حيث أعطي كل كلمة نصيبها،وكل فرقة حسابها،ولم يختلط الحابل بالنابل،كما هو العادة عند المتشددين،الذين دائما يمرقون من دائرة النقد الخالص مروق السهم من الرمية،أمثال أخي عبد الجليل-سامحه الله-وجميع المنتسبين إلي ذلك المنهج العقيم،الذي لم يرحب به ميدان العلم الواسع النطاق،وساحته الملفوفة بالفكر الناضج،والرأي البالج،دون خصوم ولاشقاق.

الوقفة الثالثة:

3-يقول ابن القيم الجوزية-رحمه الله تعالي-في (باب التلبيس): (ويا ألله ما أجهل كثيرا من أهل الكلام والتصوف،حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد،إلا بإلغائها ومحوها،وإهدارها بالكلية،وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوي ولا طبائع،ولا غرائز لها تأثيرموجبة ما.ولا في النار حرارة ولا إحراق،ولا في الدواء قوة مذهبة للداء،ولا في الخبز قوة مشبعة,ولا في الماء قوة مروية، ولا في العين قوة باصرة،ولا في الأنف قوة شامة،ولافي السم قوة قاتلة،ولا في الحديد قوة قاطعة،وإن الله لم يفعل شيئا بشيء،ولا فعل شيئا لأجل شئ.

فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله،ويبالغون في تقريره،فلعمرالله لقد أضحكوا عليهم العقلاء،وأشتموا بهم الأعداء،ونهجو لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم،وجنوا علي الإسلام والقرآن أعظم جناية،وقالو نحن أنصار الله ورسوله،الموكلون بكسر أعداء الإسلام،وأعداء الرسل،ولعمر الله لقد كسروا الدين،وسلطوا عليه المبطلين). انتهي كلامه،رحمه الله تعالي.(ينظر مدارج السالكين.ص-310-الجزء-3-تحقيق الشيخ محمد بيومي.الناشر:مكتبة الإيمان بالمنصورة.)

وتأمل-أيها القاريء العزيز- في هذا التحليل لتري كيف وضع ابن القيم الجوزية تحديدا لمقالته،حيث قال: "ويا الله ما أجهل كثيرا من أهل الكلام......"ونجد ذلك التحديد في قوله: (كثيرا)حيث تشير الكلمة إلي أن هناك القلة من الناس ليسوا علي هذا الدرب الفاسد، ثم في حرف (من) لأن دلالته هنا (للتبعيض) وهكذا وبضدها تتميز الأشياء،والمفكر الدقيق يجد أن ابن القيم الجوزية،اقتبس هذا الأسلوب النقدي من نور القرآن الكريم،حيث كان جل المولي أول واضع لذلك المسلك،ونري في قوله تعالي عن أهل الكتاب كيف حدد الخطاب والحكم عنهم،مع أنه قادر علي التعميم لأنه خالقهم،وعالم بسرائرهم وأحوالهم،ولكن مع ذلك أعطي كل فريق منهم حقهم ومستحقهم،فقال جل من قائل: "ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم،منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"سورة آل عمران:آية-110).وقال في موضع آخر: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك،ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك،إلا ما دمت عليه قائما............."آل عمران:آية:75) ويقول آمرا نبيه داود –عليه السلام- بالشكر: "اعملوا آل داود شكرا،وقليل من عبادي الشكور."سورة سبإ-آية:13)وهذا نظام الكون أنك تجد السعداء من الناس ثم الأشقياء،والعالم،ثم الجاهل،وهكذا،وإذا كان الأمركذلك نري أن الواقع الكوني يطلب منا التحديد في أكثر ما نريد القيام به، وإلا لخالفت حالنا الواقع الكوني،ولن تطابق أقوالنا الجو الإنساني،فقس علي ذلك.

كما نري في هذه العملية النقدية،أن ابن القيم الجوزية، لم يقتصر نقده علي الصوفيين فحسب،بل أنسب الحكم إلي كل فريق من الفرق التي وقعت في هذه الحالة القبيحة،كما ظهر في قوله: "أهل الكلام" وهم علماء العقائد،لكن مع ذلك وقع البعض منهم في الخطأ،وهكذا.

ونكتفي بهذا القدر الوجيز المفيد،عن المحور الثاني،لأن ما قل ودل،خير وأنفع- في أكثر الأحايين - مما طال ومل، وأظن أن القارئي سيجد شييئا مفيدا،مما سقناه من كلام الإمام ابن القيم الجوزية -عليه رحمة الله- ثم ماسلطنا عليه الضوء من منهجه وأسلوبه في النقد،والآن نتبادر إلي المحور الثالث،لنري كيف بارك ابن القيم الجوزية التصوف،اتبعني إلي ذلك لأهديك-بإذن الله-إلي سبيل الرشاد.

المحور الثالث:

ابن القيم الجوزية ومباركة التصوف.

في هذه السطور أود أن أوضح بإيجاز شديد وجهة نظر ابن القيم عن الصوفية،ثم موقفه عنهم،و كيف بارك التصوف،وذلك بذكر جملة ما قاله ابن القيم عن التصوف في كتابه (مدارج السالكين) الذي هومحور المناقشة الأساسية بيني وبين الأخ عبد الجليل،وخوفا من الإطالة المخلة،أتبادر إلي ذكر تلك الأقوال، ثم التعليق عليها بإيجاز،وإليك ذلك.

1-يقول ابن القيم في (فصل منزلة الخلق) ما نصه: (الدين كله خلق ،فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين وكذالك التصوف،قال :الكتاني:التصوف هو الخلق فمن زاد عيلك في الخلق،فقد زاد عليك في التصوف)مدارج السالكين-ص-237-الجزء-2-تحقيق-الشيخ محمد بيومي-الناشر مكتبة الإيمان بالمنصورة).

2-يفصح ابن القيم في (فصل قال:صاحب المنازل)-وهو أبو إساعيل الهروي في منازل السائرين-ذلك الكتاب كان كتاب ( مدارج السالكين) شرحا له،قال: "واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم أن التصوف هو الخلق،وجميع الكلام فيه يدور علي قطب واحد،وهو بذل المعروف وكف الأذي"

قلت:-يعني: ابن القيم الجوزية-من الناس من يجعلها ثلاثة:كف الأذي،واحتمال الأذي،وإيجاد الراحة،ومنهم من يجعلها إثنتين-كما قال الشيخ- يعني الهروي- بذل المعروف،وكف الأذي،ومنهم من يرد إلي واحد،وهو بذل المعروف،والكل صحيح.

قال:- يعني الشيخ الهروي-"وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء:في العلم ،والجود،والصبر" ويقول ابن القيم شارحا لهذا الكلام: (فالعلم)يرشده إلي بذل المعروف،والفرق بينه وبين المنكر،وترتيبه في وضعه مواضعه.فلا يضع الغضب موضع الحلم،ولا بالعكس،ولا الإمساك موضع البذل،ولابالعكس.بل يعرف مواقع الخير والشرومراتبها،وموضع كل خلق:أين يضعه،وأين يحسن استعماله.

و"الجود" يبعثه علي المسامحة بحقوق نفسه،والاستقصاء منها بحقوق غيره.فالجود هوقائد جيوش الخير.

و"الصبر"يحفظ عليه استدامة ذلك.ويحمله علي الاحتمال،وكظم الغيظ،وكف الأذي، وعدم المقابلة.وعلي كل خير,كما تقدم.وهو أكبر العون علي نيل كل مطلوب من خير الدنيا والأخرة.قال تعالي:"واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين".

فهذه الثلاثة أشياء:بها يدرك التصوف،والتصوف: زاوية من زوايا السلوك الحقيقي،وتزكية النفس وتهذيبها.لتستعد لسيرها إلي صحبة الرفيق الأعلي،ومعية من تحبه. فإن المرء مع من أحب. كما قال سحنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة. فإن المرء مع من أحب. والله أعلم.)ينظر:مدارج السالكين-ص-244-الجزء-2- باب: الخلق ما يرجع إليه المكلف من نعته -تحقيق – الشيخ محمد بيومي-الناشر-مكتبة الإيمان بالنصورة).

وهذه قطعة مما بارك بها ابن القيم الجوزية – رحمة الله عليه- التصوف في كتابه مدارج السالكين،حيث يثبت مهمة التصوف،في تزكية النفس،وهي كما عرفنا مطلوب من كل إنسان تطهيرها من الدسائس،وتنقيحها من الدنائس،ذلك لتشم رائحة القرب،وتنسم قبول الشوق،وارتقائها إلي الملإ العلي الأمجد،كما كانت تزكيتها صراط الفلاح،قال الله تعالي في محكم تنزيله: "ونفس وما سوها،فألهمها فجورها وتقواها،قد أفلح من زكها وقد خاب من دسها"(سورة الشمس-آية:7-8-9-10.) ونري هنا أن الله-تعالي- جعل الفلاح في تزكية النفس،والخسارة في تدسيسها،ولذلك اختصها الصوفيون وجعلوها محورا مهما يهتمون به،ثم أشار الشيخ إلي أن التصوف ركن من أركان الخلق الحقيقي،وبهذا ندرك أن ما يثبته ابن القيم هنا،هو أن التصوف اهتم بالجانب المعنوي اهتماما بالغا،وهوالجانب الروحي،والمعروف أننا نحن المسلمين،قوتنا كامنة في الجاب الروحي،والتي بها نحسن الجانب الحسي،وبهذا نعلم جيدا أن التصوف خلاف ما يصوره البعض من الإخوة المتشددين،سامحهم الله،ويصلح شأنهم أجمعين،والآن إلي الخاتمة.



المحور الرابع:

الخاتمة.

ففي نهاية هذه العجالة أود سرد منهج ابن القيم وأسلوبه في التأليف،ليكون قاريء مؤلفاته علي بصيرة عند القراءة،وحتي لا يتختبط خبط عشواء،وليكون علي أمن تام من اختلاط الحابل بالنابل عند أخذ شيء من مؤلفاته،أو الاستشهاد بأقواله،وأرجو من الله أن يكون قد أصبت التوفيق والسدد في هذه العملية،إنه نعم المولي ونعم النصير.

1-منهج ابن القيم الجوزية في التأليف.

بتتبعي لمؤلفات ابن القيم الجوزية وجدت أنه كان منتسما في عملية التأليف بالمنهج الوصفي،حيث إنه يصف المعلومات وصفا دقيقا،ويدرس ظاهرة الموضوعات العلمية دراسة واضحة،ومحددة خصائص تلك الظاهرة ،ووصف طبيعتها،ونوعية العلاقة بين متغيراتها،وأسبابها،واتجاهاتها،وما إلي ذلك من جوانب تدور حول سبر أغوار مشكلة ،أو ظاهرة معينة،والتعرف علي حقيقتها في أرض الواقع،إذ المنهج الوصفي مبني علي هذه السمات،ونجد أن هذه الأشياء المذكورة منطوية في تعريف العلماء للمنهج الوصفي،يقول( بوفولة بوخيمس)في تعريف المنهج الوصف:
"المنهج الوصفي هو طريقة من طرق التحليل والتفسير بشكل علمي منظم من أجل الوصول إلى أغراض محددة لوضعية اجتماعية أو مشكلة اجتماعية أو إنسانية" ويعطي " أمين الساعاتي " تعريفا شاملا للمنهج الوصفي فيقول: " يعتمد المنهج الوصفي على دراسة الظاهرة كما توجد في الواقع ويهتم بوصفها وصفا دقيقا ويعبّر عنها كيفيا أو كميا. فالتعبير الكيفي يصف لنا الظاهرة ويوضح خصائصها، أما التعبير الكمي فيعطيها وصفا رقميا يوضح مقدار هذه الظاهرة أو حجمها أو درجة ارتباطها مع الظواهر الأخرى". ينظر:(أساسيات المنهج الوصفي) مقالة للكاتب المذكور.



ويعرفه بعضهم بأنه: "مجموعة الإجراءت البحثية التي تتكامل لوصف ظاهرة أو الموضوع اعتمادا علي جمع الحقائق والبيانات، وتصنيفها ومعالجتها وتحليلها تحليلا كافيا ودقيقا للاستخلاص دلالتها، والوصول إلي نتائج، أو تعميمات عن الظاهرة، أو الموضوع أو محل الدراسة، وعلي الرغم من أن الوصف الدقيق المتكامل هو الهدف الأساسي للبحوث الوصفية،إلا أنها كثيرا ما تتعدي الوصف إلي التفسير، وذلك في حدود الإجراءات المنهجية المتبعة، وقدرة الباحث علي التفسير والاستدلال".(ينظر منتدي المنهدس- المقالة بعنوان: مفهوم المنهج الوصفي—علم النفس--).

فالمتأمل الدقيق لجميع أبحاث ابن القيم الجوزية،يجد أنها كانت متمركزة بهذه الظاهرة المذكورة،حيث أنها تعطي القوس باريها،وتعطي كل ذي حق حقه ومستحقه،فرحمه الله رحمة واسعة.

2- أسلوب ابن القيم الجوزي في عملية التأليف.

فالمتابع لجميع مؤلفات ابن القيم الجوزية،يجد أنه تميز أسلوبه في التأليف بما يأتي:

1-الالتزم بالكتاب والسنة.

2-محاربة التقليد الأعمي والجمود الفكري،حيث إنه يثبت ذلك في كتابه بدائع الفوائد قائلا: (التقليد يعمي عن إدراك الحقائق فإياك والإخلاد إلي أرضه) بدائع الفوئد- الجزء-1-ص:3- ت:هشام عطا-الناشر مكتبة نزار الباز،مكة المكرمة.)وكتاب:منهج ابن القيم الجوزية في تزكية النفس،م-الدكتورة:رقية طه جابر العلواني_ص:31)

3-الانصاف في عملية النقد،فلا يتعسف في توجيه النقد،أو يظلم من ينقده-كما يفعل الكثير من النقاد والكتاب-أو يصخم النقد،فكتابة ابن القيم الجوزية بريئة من تلك العملية العقيمة.

4-النقد التكاملي،حيث أنه لا يسب من ينقده،أو يلقي عليه أقوالاشنيعة، أو يصفه بالصفات القبيحة،أو القيام بالانتقام ممن ينتقده،كعاد صنف من الناس،الذين لا هم لهم إلا تتبع عثرات الناس؛ليطلقوا ضدهم حملة تسقيط وتشهير لها أول وليس لها آخر،ومن هنا نجد أن أمثال هؤلاء الناس ليس همهم النقد من أجل البناء والتكامل،وإنما قصدهم التسقيط والتشهير،والحريص من مخلصي الكتاب لن يفعل ذلك أبدا،إنما المريض هو من يمارس مثل هذا العمل الساذج.

5-التميز بالنقد الذي هو أحسن،إذ المنطق وطريقة العرض والأسلوب،يلعب دورا مهما وأساسيا في نجاح عملية النقد،ذلك إذا أراد الناقد أن يقدم نقدا بناءا ومؤثرا،كما اتسم بذلك ابن القيم الجوزية في مؤلفاته.

6-النقد العام لا الخاص،ومعني ذلك أنه لم يجعل نقده قاصرا علي فرقة دون أخري،أو شخص دون آخر، أو فئة دون أخري،أو المسئول دون آخر،بل يوجه النقد للجميع،كما نجد ذلك في العرض اليسير الذي قمت بعرضه من كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين،) شرح كتاب (منازل السائرين-لشيخ الهروي)رحمهما الله وأدخلهما فسيح جنانه،آمين.

7-النقد بالعلم والمعرفة لا عن جهل، ويري ذلك القاريء في مؤلفته،حيث أنه ينقح أخطاء غيره بالعلم الصافي،ويوضح مواطن زلته بالمعرفة غير مشوبة بالخلل،كما هو شأن المخلصين من المؤلفين.

8-الواقعية والتوازن.

9-تخليص التوحيد وتصحيح العقيدة.

وهذه جملة ما وفقني الله استخراجها من المنهج الذي الذي يسير عليه ابن القيم الجوزية في عملية التأليف،ثم الأساليب التي اتخذها قائدا في كل كتاباته،وبهذا يمكنني أن أقول بأني قد وصلت إلي نهاية ما نويته في هذا البحث القليل الحجم،الكثير العلم،وأدعو الله العظيم أن ينتفع به كل من له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد،كما أتضرع إليه سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم،ويجعله في ميزان حسانتي، إنه ولي ذلك والقادرعليه،سبحان من لم يعرف قدره غيره،ولايبلغ الوصفون صفته،سبحن ربك رب العزة عما يصفون،وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع.

1- القرآن الكريم.

2- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين،تأليف: الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية- ت/ الشيخ محمد بيومي .- الناشر: مكتبة الإيمان بالمنصورة.

3- منهج ابن القيم الجوزية في تزكية النفس،تأليف: الدكتورة/ رقية طه جابر الحلواني- أستاذة مساعدة- في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية جامعة البحرين.

4- بدائع الفوائد. تأليف: ابن القيم الجوزية- ت/ هشام عطا- الناشر: مكتبة نزار الباز مكة المكرمة.

5- المقالة للكاتب: بوفلة بوخيمس.- بعنوان: أساسيات المنهج الوصفي.

6- المقالة. بعنوان: مفهوم المنهج الوصفي –علم النفس- منتدي المنهدس.

الكاتب/ خادم التصوف الإسلامي السني
موسي سعد الدين سلمان الألوري النيجيري
القادري-طلبق-ودمعز آمين. 
تحري في/ 29/3/2012م  
الموافق/6/جمادي الأولي/1433هـ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق