الانفلات ليس أمنياً فقط، بل هو متعدد الوجوه والمستويات، منها ما هو ظاهر، يشعر الناس الآن به وبخطره، ومنها ما هو خفى، يسرى فى مجتمعنا، ويهدم فيه، وغالب الناس لم يشعروا بخطورته أو يرصدوا تفاقمه بعد. وفى تقديرى أن الانفلات الأمنى رغم أنه ظاهرة خطيرة، ومهمة، وعاجلة، ولا بد من محاصرتها، والقضاء عليها، وعودة الأمن إلى الشارع المصرى، حتى يجد المواطن حقه الضرورى من الأمان على نفسه وأهله وأولاده ومتعلقاته، فإنه رغم ذلك ظاهرة وقتية، وسوف تزول حتماً، لشدة شعور المجتمع بها، ولما تم الشروع فيه من إجراءات لمقاومتها، لكن تبقى فى المقابل بقية مستويات الانفلات سارية، وتتفاقم، وتتسع بشكل عشوائى، لأنها لم توضع تحت المجهر، ولم يتحفز المجتمع لها، ولم تتحول إلى همٍّ قومى، ومطلب مُلحٍّ وعاجل، توضع له البرامج والسياسات والإجراءات، وتنهض على مقاومته أجهزة ومسئولون ووزارات، كما هو شأن الانفلات الأمنى، إن الانفلات فى الحقيقة يتسع ليشمل ثلاثة مستويات: المستوى الأول: الانفلات الأمنى، وهو أوضحها، والمستوى الثانى: الانفلات الأخلاقى، والناس يشعرون به كلما حصلت حادثة أخلاقية فادحة عارضة، فتبرز القضية حينئذ على السطح، ثم تتوارى وتغيب عن الأذهان، بسبب الأحداث المتلاحقة، والهموم اليومية العاجلة، ومثال ذلك ظاهرة التحرش، التى تفاقمت فى العيد الماضى بصورة لم تحدث من قبل، والمستوى الثالث: الانفلات العقائدى، وهو خفى جداً، لا يكاد الناس يشعرون به، وربما استنكروا وجود هذه الظاهرة أصلاً، لكن الذى يراقب الشأن العام بدقة سوف يلحظه، ويدرك أنه سوف يبرز بوضوح بعد بضعة أشهر على الأكثر، حينما يستقر الملف الأمنى وبعض القضايا العاجلة المطروحة الآن. والذى ضجَّ الناس منه، ومن آثاره المفزعة، وتنادوا وضغطوا على الحكومات والجهات المسئولة لمقاومته، هو الانفلات الأمنى، لأنه مس حياة المواطن، ورصدته وسائل الإعلام، واشتد إلحاح الناس على الحكومة أن تكون لها إجراءات رادعة، تؤمّن الناس على أنفسهم وممتلكاتهم، حتى صارت هذه القضية من أكبر أولويات المصريين جميعاً فى هذه المرحلة، ولأجلها تحركت وحدات الشرطة، والجيش، ووضعت سياسات وإجراءات وخطط أمنية، فكان هو أبرز مظاهر الانفلات، ولكنه يخفى وراءه تلك الظواهر الخطيرة من الانفلات الأخلاقى والعقائدى، والمهم أننا قد بدأنا العمل لمحاصرة الظاهرة، ونرجو أن تتلاشى فى القريب العاجل، لكننا لم نرصد مظاهر الانفلات الأخلاقى، ولم يتحول إلى همٍّ قومى مُلح وعاجل، ولم ينشط المفكرون والإعلاميون والتربويون والمسئولون لوضع الخطط والسياسات والإجراءات لرصده ومحاصرته. وأذكر أن الدكتور مصطفى الفقى كتب فى أوائل يونيو الماضى، مقالاً مهماً جداً، عنوانه: (الانفلات الأخلاقى)، وهو منشور فى جريدة المصرى اليوم، ونادى فيه بأهمية وجود برامج إصلاحية واضحة، تعالج الانفلات الأخلاقى، لأنه هو المولد والمصدر للانفلات الأمنى، ورصد فى مقاله وقائع محددة فى وسط بعض الأطباء، ظهر فيها فقد القيم، وطغيان النفوس، وضمور أخلاقيات المهنة، ومن الواضح أن الوسط الطبى الموقر شريحة رفيعة ومثقفة، فكيف ببقية الشرائح الاجتماعية، التى تشتد عليها ضغوط الحياة فتنفجر فى كل الاتجاهات، وأنا أخشى خشية شديدة من الانفلات الأخلاقى، لأن ما يذهب من منظومة القيم فإنه لا يكاد يعود، وتحتاج معالجته إلى تعب وصبر وبصيرة، وأرجو أن نقوم عاجلاً برصد مظاهره فى كافة المستويات والشرائح الاجتماعية، وفى الأسواق، والشارع، والمصالح، والهيئات، والأعمال المقروءة والمرئية، من مظاهر الإسفاف والبذاءة، والقبح، والتهجم، والرشوة والفساد، وفقدان الاحترام والإنسانية، وشدة طغيان الأنانية، إلى غير ذلك من العوامل الهدامة، وكلنا نحفظ البيت المشهور لأحمد شوقى:
ثم إن الانفلات العقائدى قد بدأ يطل برأسه، متمثلاً فى فقد اليقين فى كل شىء، والرجوع إلى التشكك فى كل شىء، حتى بدأت تلوح غمغمات مكتومة فى صدور البعض بالإلحاد، وبدأوا يقرأون كتب ريتشارد دوكنز، وأنتونى فلو، وغيرهما، وشعروا بالحيرة، وامتلاء العقول بالإشكاليات والأسئلة، مع كثير من مظاهر الأداء الدينى المضطرب المتخبط، والخطاب الدينى المبتور المشوش، العاجز عن إظهار ما فى هذا الدين من ربانية، وعلوم، ومعارف، وآداب، وقيم، وحضارة، وعمران، ورحمة، وراحة، ولم يبدأ أحد إلى الآن فى رصد هذه الظاهرة، والتعامل النبوى المحمدى الراقى الهادى معها، إلا أفراد أعرف أكثرهم، قاموا بصنع دراسات أولية، واستبيانات، تحاول الكشف عن أبعاد ذلك، وتحاول التواصل مع أولئك الشباب، مع اتساع الصدر لهم، وفتح باب الحوار العلمى البنّاء معهم، فيا شعب مصر، أرجو ألا تكونوا قد كسبتم كل شىء، وخسرتم الإنسان المصرى، الذى تتسرب هويته من بين الأصابع، رغم أنه يمتلك مناجم زاخرة بالمناهج العلمية الرصينة التى تملأ العقول والقلوب والأفئدة يقيناً، وثباتاً، وتقتدر على المناقشة والتحليل والحوار، والإجابة الدقيقة اليقينية على المشكلات العقلية، فتعالوا لنفتح باب الحوار المجتمعى الرصين الراقى، لإعادة بناء الإنسان.
.jpg)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق