الخميس، 13 ديسمبر 2012

الشيخ نحناح يقود “إخوان الجزائر” من المعارضة إلى الحكم



بفضل تجنّد القوى الحيّة في البلاد الذي ساهمت فيه حركة المجتمع الإسلامي بإسناد دبلوماسي مشهود، حيث سعت لدى الجماعات الإسلامية في الخارج والمؤسسات المدنية الدولية بغية تجفيف منابع العنف ورفع أي غطاء ديني أو سياسي عن ميليشيات الموت الأعمى، تجاوزت الجزائر مرحلة الخطر القاتل، وبدأت بوادر الانفراج المرتقب تلوح في سماء الوطن مع العد التنازلي لنهاية التسعينات، حتى حلّ موعد رئاسيات 1999، والتي ستكون مهزلة جديدة بكل المقاييس، أين مُنع الشيخ محفوظ نحناح من الترشّح أصلا، في عملية إقصاء تحفظي استباقي، بعدما كان الرجل فارس الانتخابات قبل أربع سنوات أمام مرشح الجيش ليامين زروال !

وحجّة المنع حسب قرار المجلس الدستوري حينها، هو عدم حيازة الشيخ محفوظ نحناح لشهادة المشاركة في ثورة التحرير الوطنية للمولودين قبل 5 جويلية 1942، امتثالا لقيود دستور 1996 المعدّل على المقاس وفق حسابات شخصية مضبوطة لصالح رجالات النظام، مع أن الشيخ المقصى كان من فدائيي الثورة بشهادة الدكتور يوسف الخطيب آخر قائد للولاية الرابعة، الذي برّأ نفسه أمام التاريخ والأجيال بتقديم شهادة مصيرية بين يدي الهيئة الدستورية، لكن الأمور كانت مرتّبة سلفًا حتى يخلُو وجه “المراديّة” لمرشح السلطة الفعلية الذي سيتحول إلى رجل الإجماع!.

فهل أثّرت هذه الاستفزازات المتعاقبة في تفكير الرجل الحكيم ودفعت به إلى زوايا الانتحار أو الانتصار لنفسه وتغليب مصلحة حركته، كلاّ ، فقد واجه الشيخ بحنكته المعهودة شرور التآمر وعرف كيف يستدرك تداعيات الإبعاد المبرمج، ليدخل في تحالف رئاسي رفقة أقطاب التيار الوطني والإسلامي لدعم عبد العزيز بوتفليقة على برنامج المصالحة الوطنية أساسّا، لإطفاء نار الفتنة، وهو الأمل الذي أرّقه وهزّ مضجعه طيلة سنين من طغيان صوت الرشاش والمدافع في أرجاء الجزائر المكلومة.

لكن مساندة الإخوان على عهد محفوظ نحناح لمرشح النظام لم تحُل دون انتقاد ممارسات هذا الأخير، فقد كان الشيخ فنّانا حاذقًا في الاحتفاظ بشعرة معاوية مع منظومة الحكم، لكنه رسم لنفسه خطوط رجعة في ذات الوقت، فكان صوته عاليًا مسموعًا عندما تُداس عناصر الهوية الوطنية أو يستشعر مخططات خفيّة للنيل من الإسلام واللغة العربية أو التاريخ، أو التقصير في نصرة فلسطين وقضايا الأمة العربية والإسلامية عموما، فضلا عن مقارعة الفساد والبيروقراطية والمحسوبية والجهوية وتهميش الشرائح الاجتماعية التي تئنّ تحت وطأة الفقر والاحتياج، والأهم من ذلك، أنه صان نفسه وأهله عن التلطّخ بقذارة السلطة والوقوع في مجاريها الملوّثة بالأطماع والمغريات و زخارف الحياة الدنيا، فعاش عفيفا كفيفا ومات طاهرا نظيفا.

مع حلول الألفية الثالثة، سيستوي بنيان الإخوان المسلمين صرحا شامخا في الجزائر، بفضل جهود مضنية من العمل الخالص والتضحية الصادقة والتكوين الدؤوب، صقلتها عقود من التجربة الميدانية والتأمل العميق في رهانات المرحلة وأطوار الحركة الإسلامية على الصعيد الإقليمي والعربي عموما، إذ برزت حركة مجتمع السلم بمقتضى التسمية الجديدة المكيّفة مع تعديلات دستور 1996، كأقوى مؤسسة حزبية في الجزائر، بكل ما يحمله مفهوم “المؤسسة” من مبان⸗ وظيفية ومعان⸗ سياسية وحركية ودعوية، وفق شهادة واحد من أكبر المتابعين لشؤون الحركة الإسلامية والسياسية بوجه عام في البلاد، وهو الكاتب الإعلامي أحميدة العياشي، فقد اشتهرت الحركة حينها بالقدرة المميزة على صناعة المبادرة الوطنية، وقوة الخطاب السياسي المفعم بمفردات المعجم المفاهيمي الذي ابتكرته حمس بفعل عبقرية شيخها المؤسس، من خلال استيعابه الدقيق لواقع الساحة الوطنية والدولية من جهة، وبراعته الفائقة في تجريد الاشتقاق اللغوي المعبّر عن أفكار الحزب، من جهة أخرى.

علاوة على تكريسها لأدبيات وسطية معتدلة، فقد تسامت الحركة عن ثقافة الاستعداء أو الاستجابة لمعارك التلهية والاستنزاف، مما فتح أمامها قنوات واسعة للاتصال والتفاعل مع كافة القوى الوطنية والتعاطي بروح ايجابية مع كل المساعي البناءة، بما يعود بالمنفعة العامة على مصلحة الوطن، بعيدا عن لغة المناكفات الهدامة أو السقوط في سجالات البطولة الزائفة .

تحولت حركة مجتمع السلم بعد عقد من العمل العلني إلى قوة تنظيمية صلبة، يطبعها الانضباط المؤسساتي والفردي، وتميزها القدرة المشهودة على التعبئة والتجنيد العام، واستعدادات المناضلين للبذل والعطاء في كنف⸗ من التلاحم الشديد والارتباط العاطفي الفيّاض، وقد زاد نجاح الحركة الإخوانية في تشييد روافد رافعة من حضورها الباهر على المشهد الوطني، في ظل تآكل التنظيمات الجماهيرية الموروثة عن الحزب الواحد، فقد تمكنت من تكوين “واجهة طلابية” لها مكانتها النقابية في الوسط الطلابي وأداؤها السياسي في الساحة الوطنية، فضلا عن مؤسسة اجتماعية خيرية انتشرت هياكلها و إحسانها ودورها التربوي والثقافي والتعليمي في ربوع الجزائر العميقة بكل مناطقها وأحيائها الشعبية والحضرية منها، دون أن تتخلف عن تنشئة أجيال المستقبل عبر التوغّل الكبير على مستوى المؤسسة الكشفية، مع توافد غير مسبوق للعنصر النسوي وسط قواعد الحركة وقياداتها المحلية على الأقل.

هذه المقومات الأساسية صنعت لحركة حمس رغم عوزها المالي والإعلامي في تلك المرحلة، ثقلاً سياسيّا واجتماعيّا مرشّحا لأدوار قيادية في مستقبل البلد، لاسيما بعد تدريب المئات من كوادرها على مقاليد الإدارة والتسيير التنفيذي ضمن مؤسسات الدولة، علاوة على مشاركة الآلاف من منتخبيها في التعرف عن قرب على قضايا الشأن العام الوطني والمحلي، نتيجة سياسة المشاركة التي انتهجتها الحركة وفق مقاربات اجتهادية حساسة، أثارت جدلا واسعا في الداخل والخارج وسط صفوف التيارات الإسلامية على وجه الخصوص، لكن الشيخ محفوظ نحناح صمّم برغم الانتقادات اللاذعة التي تعرّض لها والاتهامات الحرجة التي طالته، على شقّ طريقه بكل ثبات وتفاؤل، طمعًا في تحقيق المقاصد الكبرى، وأملاً في إنصاف التاريخ بعد جلاء غُبار الفتن و إشراق صباح الوطن.

وإثر ذلك، ذاعت سمعة الإخوان الجزائريين في أصقاع العالم أجمع، حتى صارت تجربتهم السياسية محلّ دراسة وتأمل وتقليب من القادة الإسلاميين، جلبت اهتمام الباحثين في مراكز الرصد العالمي وحفّزت فضول الأنظمة العربية على التفكير في بدائل واقعية لاحتواء القوى الإسلامية، بدل التحجّر على مقاربات إقصائية لن تصمد طويلا في وجه الواقع الاجتماعي والسياسي، فكان الشيخ محفوظ نحناح دائم السفر والترحال بين دول القارات الخمس، قائدًا فريدًا يحمل في جعبته الكثير من خصوصيات التجربة الميدانية التي تجاوزت جماليات الإسلام الموصوفة في عبق الكتابات القديمة وكهفية التفسير إلى الاختبار المنهجي التطبيقي لنصوص الدعوة “المثالية” على أرض الواقع بكل تعقيداته وتناقضاته وأخطاره، ولم تتوقف حركة الشيخ نحناح العالمية عند تبرير نهجه السياسي أو إبراز محاسنه العاجلة والآجلة لدى نظرائه الإسلاميين عبر الملتقيات والمؤتمرات الدولية، بل تعدّى دور الرجل إلى مقابلة زعماء الأنظمة الشمولية وقادة أجهزتها المؤسساتية من تونس إلى ليبيا والأردن، مرورا بسوريا وسواها للنظر في مستقبل الإسلاميين هناك، وبحث سُبل التوافق الوطني، وإن تعذّر ذلك، فأضعف الإيمان هو لفت “العناية الرسمية” إلى الاهتمام بالحقوق الإنسانية على الأقل، للمظلومين والمشرّدين والمضطهدين.

نذكّر مرة أخرى، أنّ ما نستعرضه هنا لا يمثّل كتابة تاريخية بالمفهوم المنهجي والنقدي أو حتى التوثيقي، بل هو مجرد محاولة مقتضبة لاستجماع المعالم الكبرى على صعيد الصيرورة والتطور المرحلي في مشروع جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر، بهدف تقريب الصورة المادية والمعنوية لمنجزات هذا التيار على مرّ عقود من البناء التراكمي، حتى يسهل على القارئ البحث معنا في “الإجابة الواقعية” على نص التساؤل الحضاري الذي استفتحنا به هذا المقال.

عندما نعود بالذاكرة الجريحة عشر سنوات إلى الخلف، ينتابنا شعور أن المولى تبارك وتعالى قد اختار اللطف بعبده الصالح الشيخ محفوظ نحناح، فعجّل برحيله إلى الدار الآخرة، ليلتحق بالرفيق الأعلى في زمرة النبيئين والصالحين والشهداء وحسن أولائك رفيقا، فقد أبلى “الشيخ المجاهد” البلاء الحسن ولاقى في سبيل الإسلام والأمة والوطن ما لاقى من العنت والمشقة، حتى أقعده سرطان الكبد عن حركة الحياة بعد مرض عضال، لتلفظ الروح الطاهرة أنفاسها الأخيرة، وهو في الواحدة والستين من العمر، في أوجّ العطاء والحيويّة حين استوى عقلا وحكمة وتجربة، ولكن القدر سبق الأماني.

قلت يراودنا الشعور حين نستحضر ظروف وفاته، أن الرجل قد استوفى زمانه وأدى الأمانة كاملة، بعدما نجح في صناعة حركة دعوية سياسية متجذّرة على النحو الذي سبق في مقالنا، فكان لابدّ أن تجري سنن الخالق على الجماعة، برحيل شيخها المؤسس، ومواجهة الأتباع لتحديات الاستخلاف وصون الوديعة التي سقيت بدماء زكية لرجال سبقوا وصدقوا حتى نالوا الشهادة.

فماذا صنع الخلف بوصية السلف، وقد نادى فيهم الشيخ محفوظ نحناح من مرقده الاستشفائي بفرنسا أسابيع قبيل وفاته، والبكاء يغالبه ” الله الله في دينكم، الله الله في أخوتكم، الله الله في دعوتكم، الله الله في حركتكم”، كانت تلك من آخر الكلمات الخالدة التي سمعها الإخوان من شيخهم، وهو يودعهم قبل الوفاة، لأنه كان يدرك بأحاسيس العبد المؤمن الصادق أن ساعة الرحيل قرُبت والأجل قد أزف.

ربما يشعر القارئ أن لحظة استسلام للعواطف الإنسانية قد أقحمت هذه الأسطر في ثنايا المقال، فنقول أن الإتيان على هذه المعاني كان متعمّدا، ذلك أن مثل هذه “الوصايا المعهودة” من القادة الروحيين تكشف من جهة عن حجم المخاوف التي كانت تتلبّسهم على مصير الحركة، بحكم معرفتهم بأمراض البيت الداخلي وتربّصات الواقع الخارجي، وفي الحين ذاته، تُحيلنا إلى “مسلّمة مشهودة” في حياة الجماعات والتنظيمات البشرية، مفادها أن تلك التجمعات تتعرض عادة إلى الارتباك القيادي وشيء من الترهّل التنظيمي، نتيجة طور التكيف الانتقالي الذي يعقُب مرحلة ما بعد الزعيم الأول.

وفي حديثنا عن ميراث حركة المجتمع السلم إن جاز التعبير، إذا أردنا أن نتلمس الأسباب الكامنة وراء وضعها الحالي المنشطر على خمس فروع ذات المنشأ الإخواني، علينا أن نعود إلى مطلع التسعينيات من القرن الفائت، للوقوف على أول “انقسام جذري” يطال الجماعة آنذاك، وسوف ترافق تداعياته وآثاره السلبية مستقبل الحركة، لتظهر انعكاساته الخطيرة على مستوى الصراعات القيادية في المؤتمر الثالث بُعيد وفاة الشيخ محفوظ نحناح، وإن تصاعدت ملامحه الجانبية بشكل لافت طيلة مرض الرجل وربما قبل ذلك أيضا.

ذكرنا سابقا أن الشيخ نحناح بادر في عام 1989 بإعلان جمعية الإرشاد والإصلاح كواجهة تنظيمية جمعوية لجماعة الإخوان بعد عقود من العمل السري، ولم يرغب في المغامرة الحزبية من بداية المشوار، لأنه كان يريد أن يجس نبض الصدق لدى السلطة في القبول بقواعد اللعبة التعددية من جهة، وما يزال يطمع في وحدة جامعة لصفوف الإسلاميين من جهة أخرى، لكن الشيخ بفطنته الفطرية وبراغماتيته المقاصدية، فتح لنفسه آفاق المستقبل دون أن ينسف خطوط الرجعة، فتعهد أمام أنصاره ومحبيه في حفل تأسيس الجمعية، أن هذه الأخيرة ستكون على موعد مع الشعب الجزائري إذا اقتضى الحال وانتفى المانع، وقد كانت تلك رسالة واضحة ومفهومة حينها في اتجاه الاستعداد لتشكيل فصيل حزبي مستقل عما هو قائم، في ظل حالة التباعد الكبير والتمايز الجوهري بين قيادات الجماعات الإسلامية بشأن التعاطي مع الواقع السياسي وتصور نهج التغيير الوطني، فضلا عن الرؤية الإستراتيجية للتمكين للمشروع الإسلامي.

ولم يتعجّل رئيس جمعية الإرشاد والإصلاح رفقة إخوانه في اتخاذ القرار بهذا الصدد، بل ظل يترقب تطور مسار الأحداث، مقلّبا الأمور على أوجه الاجتهاد والتفكير، لإيجاد مخرج واقعي وسياسي وتنظيمي وشرعي، يحمي مكاسب الصحوة الإسلامية التي كانت ثمرة أجيال متعاقبة وعقود من البذل، لتحفظ رصيدها وتسهم في تأمين مستقبل البلاد، حتى وصل الاختلاف إلى مفترق الطرق بعد 24 شهرا من الصبر والتأني ومساعي التقريب والنصح، ليحسم “الإخوان المسلمون” قرارهم بالخروج إلى الساحة الحزبية، تحت قبعة حركة المجتمع الإسلامي في 30 ماي 1991، في ذات اليوم الذي باشرت فيه قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ ما عرف بـ” العصيان المدني” المفتوح، وما تبعه من أحداث مأساوية، وبداية العدّ التنازلي في اتجاه المنحدر الخطير، ولا أظن أن هذا التزامن كان محض صدفة، بل ربما خُطّط له، حتى يبعث بدلالة رمزية ومنهجية فارقة بين الفريقين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق