الخميس، 13 ديسمبر 2012

في مصر وتونس.. نقض الشرعيّة لصدّ الإسلاميين!!



ما تعيش على وقعه الساحة المصرية هذه الأيام من “تجاذبات” حادّة وتفاعلات سياسية متسارعة، وما بدأ يتشكّل أيضا في تونس الشقيقة مع فارق في القياس، شهدنا مثله قبل خمس سنوات في المشهد الفلسطيني بعد صعود حركة حماس إلى سدّة “السلطة” بدلاً عن حركة فتح التاريخية، وهي صورة تُحيل المراقب المُحايد في نهاية التحليل دون عناء تفكير إلى الوقوف على مخططات منهجية ضمن سيناريو واحد يُعيد نفسه من قطر لآخر، بهدف إيجاد مناخ متوتّر ومربك لعرقلة تجربة الإسلاميين في الحكم لاعتبارات أيديولوجية مبدئية أو لدوافع ترتبط بالصراع على السلطة!

عندما نجحت حركة المقاومة الإسلامية في غزة والضفّة عام 2005 بنتائج انتخابات المجلس التشريعي، لم يقف الغرب منفردًا في وجهها بضرب الحصار الجائر على القطاع، بل تحالفت معه “سلطة أوسلو” من أجل إسقاطها سريعا، لأنّ تحييدها عبر الصندوق لم يُجد نفعًا، فشرعت مليشيات سيئ الذكر “محمد دحلان” في تنفيذ خطّة الجنرال دايتون الرامية إلى الوصول بالقطاع إلى مستوى الانفلات الأمني، ورغم كل التفاهمات حينها بين الفصائل الفلسطينية، أشهرها اتفاق مكة المكرمة، فإن مسلسل التآمر على حكومة الوحدة الوطنية برئاسة إسماعيل هنيّة ظلّ قائما، بل عرف تصعيدا خطيرا وقتها بتوسيع دائرة القتل وأعمال التخريب، حتى اضطرت كتائب القسّام إلى موقف الحسم العسكري ضد العملاء، دفاعا عن خيار المقاومة الذي احتضنه الشارع الفلسطيني، بعدما تأكد للجميع أن المطلوب هو إبعاد حماس التي حملتها صناديق الاقتراع إلى هرم “السلطة” عن واجهة القرار الوطني!

المشهد يتكرّر اليوم في تونس بصورة مشابهة وإن كانت مغايرة نسبيّة في سياقاتها وأبعادها وأطرافها، لكن أعتقد أن الهدف الأساسي هو وضع العصا في عجلة حكومة النهضة وحكم الترويكا، وأحداث سليانة الأخيرة وقبلها الكثير من الوقائع التي تصاعدت فيها مشاهد العنف والفوضى بالبلاد، لم تكن فقط نتاج المرحلة الانتقالية التي عادة ما تعقب الثورة، بل ثمّة دواليب متداخلة تشتغل لهذا الغرض، من أجل إفشال تجربة حركة النهضة الإسلامية، وبلغ الأمر بتلك الأطراف إلى حدّ وضع يدها في يد بقايا النظام البائد الذي تمثّله دوائر المال والإعلام التي تشكّلت على عهد “بن علي” المخلوع، ليس فقط بداعي “الغاية تبرّر الوسيلة”، بل لأنّها في الغالب تعبّر عن امتداد لواجهاته المزيّفة وتعكس أحد وجوهه القبيحة التي وفّرت الشرعية الزائفة للاستبداد والفساد طيلة ربع قرن من تاريخ تونس الحديث.

جاء الآن دور مصر هي الأخرى، لكنّ موقع أرض الكنانة ضمن الخريطة العربية، وتأثيرها الاستراتيجي على مجريات الأحداث السياسية والإقليمية، فضلاً عن ثقل جماعة الإخوان المسلمين واقعيّا وتاريخيّا، جعل من “الأزمة المفتعلة” تبدو أكثر تعقيدا، وبحاجة إلى تخريج دقيق مُفعم بالحُبكة والإثارة، بيد أنه مع ذلك لم يخلُ من اللعب المكشوف وفصول التآمر المفضوح!

بعد قرابة سنتين على سقوط الفرعون “مبارك” ما تزال مصر تُراوح مكانها تقريبا، إذ لم تتمكن بعدُ من الاقتصاص للشهداء ولا محاكمة آل مبارك وأعوانه المقربين محاكمة عادلة، ولا وضع دستور جديد، ولا بناء مؤسسات شرعية منتخبة لاستئناف مسار التنمية المنشودة والديمقراطية المأمولة، وما إن يتم تحقيق أيّ “إنجاز شعبيّ” على هذا الصعيد حتى يُجهز عليه أخطبوط “الثورة المضادة” من أجهزة الفلول التي تتوزّع في ثنايا “الدولة العميقة”، فقد برّؤوا “الرئيس المجرم” ثم حلّوا مجلس الشعب وهيئة إعداد الدستور السابقة، وكانوا يتهيّأون لإعادة الكرّة مع مجلس الشورى والتأسيسية الجديدة، قبل الإعلان عن تنحية “محمد مرسي”!

وضع شديد الحساسيّة لم يترك أمام الرئيس المنتخب من طرف الشعب إلا خيار حماية الثورة من الانقلاب المدبّر بخبث، ليُصدر ما سميّ بالإعلان الدستوري لكبح تغوّل القضاء المسيّس على سلطة الرئيس الشرعيّ، بل التصرف في إرادة الشعب بأحكام باطلة!

أعتقد أن تمييز المشهد المصري لا يحتاج إلى تمحيص كبراء المختصين في التحليل السياسي، رغم بعض المخاوف المفزعة التي لا تعدو أن تكون حقّا يُراد به باطل، من قبيل دعاوى الفصل بين السلطات وتأليه الرئيس و”أخونة الدولة” وسواها، فمن يقرأ وجوه ورموز ودوائر الحلف الليبرالي ضد حكم الإخوان في مصر يُدرك بسهولة – مع تسجيل مواقف مبدئية للبعض- أن المسألة لا تخرج عن مشروع منظّم لتعطيل الشرعية الشعبيّة وتوقيف عجلة المسار المؤسّساتي للبلد بسبب الخلاف الفكري والسياسي مع جماعة الإخوان المسلمين، أليس عرّابو التصدّي للديكتاتورية اليوم هم عمرو موسى ومحمد البرادعي وفضائيّات الرقص التي أسسها نظام مبارك المُرتشي بثروات غير مشروعة لأزلامه الفاسدين، من يكون موسى والبرادعي وقنوات المجون حتى يتباكوا على مكتسبات الثورة ويدّعوا الحديث باسم الشعب المصري، هل يطنّون أن الناس تجهل تاريخهم وماضيهم وما قدّموه لنظام مبارك!

الإسلاميون في مصر وتونس كما في غزّة سابقا، سعوا جميعهم للوفاق الوطني وبذلوا وسعهم للائتلاف، طبعا المقال لا يسع للخوض في تفاصيل الإجراءات والتنازلات والمقترحات التي تقدموا بها دومًا لاحتواء الأوضاع الطارئة، دون أن نفي بعض الهفوات المُتجاوزة في سياق التعاطي اليومي مع متطلبات الواقع الناشئ، لكن المشكلة الحقيقية مهما حاولت الكثير من أبواق الدعاية المأجورة تغليفها وتهذيبها وحجبها عن الرأي العام، هي عدم تقبّل حكم الإسلاميين ولو جاؤوا بالانتخاب الديمقراطي المُعبّر عن خيار الشعب الحرّ، لأن تلك الأقليّات النافذة التي استأثرت بمزايا الحكم طيلة عقود لا تتخيّل يوما ما وصول أيّ سلطة شرعيّة إلى الإمساك بزمام النظام في البلاد العربية!

لقد منعوا الإسلاميين فيما مضى من الحكم بالقوة المتعسّفة، عن طريق المنع والحظر والسجون والنفي والاضطهاد وحتى إلغاء النتائج الانتخابية المفاجئة، لكن حينما استنفذت كافة تلك الأساليب القاسية مفعولها العملي، جاء دور تعفين الوضع وشّحن الشارع وإرباك السلطة وتعطيل المؤسسات حتّى يُثنوا الشعب عن تأييد التيارات الإسلامية، “لأن القبول بحكمها سوف يُكلّف المواطنين فاتورة باهظة من الفوضى المنظّمة والقلاقل المفبركة”، هذا هو الانطباع والواقع الذي يخطط هؤلاء لإنجازه ميدانيّا!

في وقت سابق، رموا الإسلاميين بكل نعوت الخرافة والدروشة والتخلّف للحيلولة دون تتويجهم بمقاليد الحكم، أما اليوم فقد انتقلوا إلى كبح تجربتهم العمليّة بأدوات قذرة متجردة من قيم التنافس السياسي، علاوةً عن تنكّرها لقواعد اللعبة الديمقراطية، لماذا لا يُترك المجال للإسلاميين حتى يختبرهم الشعب بنفسه فيحكم لهم أو عليهم!

طرحت هذا التساؤل من باب الاستنكار لا أكثر، لعلمي الراسخ أن الإشكالية أعمق بكثير مما نتصوّر، فهؤلاء المناوئون ثلاثة فرق، أخفّهم ضررًا أولائك المتوجّسون من نوايا الإسلاميين دون بيّنة ولا دليل، وأسوأهم الخصوم التقليديون للمشروع الإسلامي، ثم تأتي في الترتيب إمبراطوريات الفساد والمال الوسخ، فهذه القوى إن أمكن التعايش مع بعضها، فيستحيل أن ترضى البقية منها، لأن الصراع لديها قضية حياة أو موت أي بقاء أو فناء! فهي لا تُؤمن البتّة بانصياع الأقلية لإرادة الأغلبية، بل ترى في نفسها وصيّا أبديّا على الشعب!

عود على بدء، لأقرر كما أسلفت، أن معضلة مصر تحديدا، هي تعبير عن أزمة فصيل فاشل مع الديمقراطية والحرية والدستور والقانون والإرادة الشعبية، ولا علاقة للموضوع بممارسات حكم الإخوان، مهما اجتهد هؤلاء في تعديل خطابهم وتطوير برامجهم وتطمين خصومهم، لأن ما يُرضيهم- دون سواه- هو انسحاب الإسلاميين طواعية من ساحة المعركة، لكن هيهات أن يظفروا بمرادهم في زمن الربيع العربي، إلا إذا رغب الشعب في ذلك، وقرّر أن يستعيض عنهم بمن يحسبهم أقدر وأكفأ على إدارة شؤونه الحياتية، وقتها سينزل الإسلاميّون بصدر رحب عند مقتضى الإرادة السيّدة للشعب، فهل يملك خصوم محمد مرسي الشجاعة للاحتكام إلى استحقاق الاستفتاء على الدستور يوم 15 ديسمبر الجاري، فتكون النتيجة النهائية تزكية قرارات الرئيس أو إعلانه الاستقالة من منصبه، ويكفي يومئذ الشعب المصري بحكمه البلد عناء الانسداد المفتعل؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق