بقلم: مصطفى علوى
علينا أن نسعى لإقامة علاقات دبلوماسية طبيعية، على أساس الاحترام المتبادل لوحدة الأراضى والسيادة والمساواة والنفع المتبادل، مع جميع البلدان التى ترغب فى أن تعيش معنا فى سلام ماوتسى تونج 15 سبتمبر 1956 مع بداية السبعينات كانت ملامح التغيير التى دخلت إلى النظام الدولى، قد تبلورت لتكون واقعا جديدا فى علاقات الدول عرف اصطلاحا بظاهرة الوفاق الدولى فبعد أن كانت الحرب الباردة والمواجهة تميز علاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أخذ العالم يشهد انفراجا فى علاقات دوله من أجل دعم التعاون بينها وتخفيف حدة التوتر الدولى وكان ذلك التحول انعكاسا للمتغيرات الكبرى الجديدة التى عرفها النظام الدولى مثل استحالة الحرب بين القوتين العظميين نتيجة لامتلاك كليهما أسلحة متطورة ذات قدرة تدميرية رهيبة يستحيل معها أن يكون هناك منتصر ومهزوم، وظهور قوى كبرى تملك إمكانيات كبيرة للتأثير المستقبلى، وبصفة خاصة الصين الشعبية وأوربا الغربية واليابان، بالإضافة إلى التحول الكمى والكيفى الكبير الذى طرأ على النظام الدولى ظهور هذا العدد الكبير من دول العالم الثالث حديثة الاستقلال ومحاولة لعبها دور متميز على مسرح الأحداث الدولية وفضلا عن هذا وذاك، لم تعد الكتلتين المتصارعتين تتميزان بتلك الدرجة العالية من التماسك والوحدة التى ميزت علاقات الأعضاء داخل كل منهما فى فترة الحرب الباردة، بل أصبحنا أمام ظاهرة جديدة فى التعدد فى مراكز التأثير داخل كل كتلة ولم تكن هذه التطورات المادية كافية بمفردها لخلق ظاهرة الوفاق الدولى الجديدة، لو لم تكن هناك قيادات سياسية خاصة لدى الدولتين الأعظم قادرة على إدراك هذه التطورات واستيعابها والاستجابة لها والتفاعل معها بنمط جديد من التحرك الخارجى يقوم على إحلال التعاون والانفراج محل الحرب الباردة والتوتر الدائم كسمة مميزة لعلاقاتها المباشرة وفى دراستنا لموقف الصين الماوية من ظاهرة الوفاق الدولى تبدأ بتحديد مضمون ذلك الموقف وننتقل إلى الحديث عن مدى فاعليته فى التأثير على الوفاق الدولى بالسلب أو الإيجاب، ثم نقدم تصور الصين لمكونات الوفاق الدولى، ونختم تحليلنا بإلقاء نظرة مستقبلية يستعرض فيها احتمالات التغيير فى الموقف الصينى من الوفاق الدولى بعد وفاة ماوتسى تونج
أولا:ـ ازدواجية موقف الصين من الوفاق الدولى:ـ أن أول ما يلاحظه الباحث فى مضمون موقف الصين الماوية إزاء الوفاق، هو ما يتميز به ذلك الموقف من ازدواجية فالصين قدمت إسهاما إيجابيا فى دعم الوفاق وتمكينه، وذلك بالانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية ودعم علاقاتها خاصة التجارية معها لكنها من ناحية أخرى تقف معارضة للوفاق فى علاقات القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى ببعضهما البعض وتصل هذه المعارضة إلى حد رفض الصين الماوية وإنكارها لوجود وفاق بين القوتين العظميين فكأن لموقف الصين الماوية من الوفاق بعدين:ـ أحدهما إيجابى ذو أثر موافق، والثانى سلبى ذو أثر غير موافق والواقع أن منطلق هذه الازدواجية فى الموقف الصينى يتمثل فى أن كلا من بعديه الإيجابى والسلبى إنما يعمل لخدمة المصلحة القومية للصين الماوية خاصة فى صراعها مع الاتحاد السوفيتى كما سيتضح تفصلا فيما هو آت
1 ـ البعد الإيجابى:ـ انفراج العلاقات الصينية الأمريكية:ـ كانت هناك مجموعة من العوامل وراء سيادة العداء المطلق فى علاقة الصين بالولايات المتحدة فى السنوات العشرين التى أعقبت نجاح الثورة الماوية فى عام 1949 من بين هذه العوامل نشير إلى الصراع الأيديولوجى بين البلدين، والالتزام الأمريكى بفورموزا، وتورط الولايات المتحدة فى منطقة الهند الصينية
أ ـ مظاهر الانفراج:ـ ولما ضعف تأثير هذه العوامل منذ أواخر الستينات بدأنا نشهد درجة من الانفراج فى علاقات الدولتين تمثلت أولا فى مجموعة من الخطوات الجزئية الصغيرة التى بدأتها الولايات المتحدة لكسر موجة العداء الحادة التى ميزت المزاج الأمريكى العام فى الخمسينات والستينات، مثل إزالة قيود سفر الأمريكيين إلى بكين وفى يونيو 1971، رفع الحظر التجارى الذى كانت تفرضه الولايات المتحدة على الصين وكانت زيارة كيسنجر الأولى السرية لبكين فى يوليو عام 1971 تمهيدا هاما لتحقيق ذلك الانفراج توج بزيارة الرئيس الأمريكى السابق نيكسون للصين فى فبراير 1972، التى انتهت بإعلان بيان شنغهاى المشهور الذى يعد محاولة للتوفيق بين مواقف البلدين غير المتناسقة، حيث قدم كل طرف تنازلات معينة تمثلت فى التزام الولايات المتحدة بسحب قواتها المقاتلة من فورموزا (حالما يختفى التوتر من المنطقة، واعترافها بأن فورموزا جزء من الصين أما الصين فلم تبد اعتراضا حول استمرار معاهدات الدفاع التى تربط الولايات المتحدة بكل من الصين الوطنية واليابان وكوريا ومن مظاهر الانفتاح الصينى على الولايات المتحدة أيضا أن اتجهت الصين إلى دعم تبادلها التجارى مع واشنطن بل وصلت درجة انفتاح علاقات البلدين إلى حيث بدأ الحديث عن رغبة الصين الشعبية فى شراء أسلحة أمريكية متطورة ففى حديث أدلى به جيمس شيلزنجر وزير الدفاع الأمريكى السابق لمجلة الأمريكية الشهيرة نشر فى أكتوبر 1976، أجاب شليزنجر عن سؤال يقول:ـ هل عبر الصينيون عن رغبتهم فى أسلحة متطور مضادة للدبابات أو فى كميات من الأسلحة المضادة للطائرات من التى يمكن للولايات المتحدة تزويدها بها؟ أجاب بقوله:ـ أظن أن هناك بعض الاهتمام بذلك خاصة داخل المؤسسة العسكرية ولكنه أمر مخفى تماما لأسباب دبلوماسية ب ـ العوامل الدافعة إلى الانفراج:ـ هناك عديد من عوامل التأثير التى دفعت إلى تحقق ذلك الانفراج يمكننا تصنيفها فى ثلاث مجموعات أساسية:ـ المجموعة الولى خاصة بالإدراك السياسى للقيادة فى البلدين ودورها فى دفع علاقاتهما نحو الانفراج:ـ فلا شك أن وجود نيكسون وكيسنجر على قمة جهاز صنع السياسة الخارجية الأمريكية كان له تأثيره فى هذا الصدد فقد تمنعا بإدراك سياسى منفتح يستوعب المتغيرات الدولية الجديدة ويستجيب لها وكان من أبرز هذه المتغيرات تحول الصين الشعبية إلى واحدة من الدول الكبرى يرى بعض المحللين أن اتجاه الصين نحو التخفيف من دوائر علاقاتها مع الولايات المتحدة كان يمكن أن يبدأ منذ الخمسينات، فقد كانت هناك بوادر اتجاه صينى للأخذ بالتعايش السلمى فى العلاقة مع الغرب لكن سياسة جون فوستر دالاس المريضة فى الخمسينات هى التى أوصدت الباب دون ذلك بدعم هذا التحليل بالرجوع إلى عبارة للزعيم ماوتسى تونج فى كلمته المعنونة ـ حول المعالجة الصحيحة للتناقضات بين صفوف الشعب فى 27 ـ 2 ـ 1957 وردت فى الكتاب الأحمر الصينى يقول ماو:ـ أما البلدان الإمبريالية، فينبغى لنا أيضا أن نتحد مع شعوبها وأن نسعى إلى التعايش فى سلم مع هذه البلدان، وإلى إجراء تعامل تجارى معين معها، وأن نحول دون نشوب أى حرب محتملة الوقوع وهذه الكلمة تعنى أن إدراك ماو السياسى لم يكن يتضمن إضمار عداء مطلق ومسبق نحو الغرب، بل أن ماو كان يتصور إمكانية التعامل، بل والتعاون مع الغرب لذلك حينما جاءت قيادة أمريكية قادرة على أحداث تغيير جذرى فى أساليب السياسة الأمريكية تحقق الانفراج بين الصين والولايات المتحدة وهناك احتمال أن تكون القيادة الأمريكية قد أدركت الأثر الذى يمكن أن يترتب على دخول الصين فى علاقات مستمرة مع الغرب وسحبها من الإطار المغلق الذى وضعت نفسها داخله لعقدين من الزمان، فى شكل تخفيف درجة التهديد التى تمثلها الصين الماوية فى مواجهة دول شرق وجنوب شرق آسيا المرتبطة بالولايات المتحدة وهناك احتمال ثان بان تكون القيادة الأمريكية قد أدركت أيضا أثر انفراج علاقات الصين مع الغرب على الصراع على السلطة داخل الصين بعد وفاة ماو، فى شكل تدعيم مركز جناح المعتدلين فى ذلك الصراع السلطوى، وهو الأمر الذى يحقق مصلحة الولايات المتحدة المجموعة الثانية ترتبط بالظروف الداخلية فى البلدين، مثل بلوغ الصين درجة معقولة من النمو مكنتها من الإقدام على الانفتاح على العالم الخارجى امتلاك القنبلة النووية على سبيل المثال كما أن بدء مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية تحقق انطلاقا أكبر للمجتمع الصينى نشأت عن سقوط لين بياو وأعوانه العسكريين المتشددين وما ترتب على ذلك من إعادة توزيع الموارد الصينية فى صالح التنمية الاقتصادية وتخفيض الموارد المخصصة للمؤسسة العسكرية أن هذه الانطلاقة الجديدة فى عمليات التنمية كانت تحتاج إلى استيراد مستلزمات الإنتاج المتطور من رؤوس الأموال الضخمة والسلع الإنتاجية الأساسية والتكنولوجيا المتطورة ولا يخفى أن الولايات المتحدة تمثل مصدرا هاما لهذه المتطلبات وقد سبق أن تحثنا عن الزيادة الكبيرة فى حركة التبادل التجارى بين الولايات المتحدة والصين ويرتبط بهذه المجموعة أيضا رغبة مجموعة ماو شواين لاى فى دعم مركزها فى مواجهة العناصر المناوئة بزعامة لين بياو فى الصراع على السلطة وذلك من خلال دعم علاقة الصين بالولايات المتحدة وربما كان الانفتاح الأمريكى على الصين عاملا هاما فى خطة الرئيس نيكسون للعمل من أجل إعادة انتخابه فى خريف عام 1972 أما المجموعة الثالثة فتتمثل فى التغير الذى لحق بميزان القوة فى شرق وجنوب شرق آسيا بفعل الصراع الصينى السوفييتى لقد كان ذلك التغير بالنسبة للولايات المتحدة يعنى أن الصين لم تعد تمثل التهديد الخطير الذى كانت تمثله حينما كانت حليفا للاتحاد السوفيتى أما بالنسبة للصين فقد كان ذلك التغير يعنى أن الاتحاد السوفيتى قد احتل مكانة الولايات المتحدة كالعدو الأول للصين الماوية لقد أصبح الصراع الصينى السوفيتى أكثر العوامل الخارجية تأثيرا فى توجيه سياسة الصين الخارجية منذ منتصف الستينات فالصين تحاول تفادى تزايد خطر التهديد السوفيتى لها من خلال انفتاحها على الغرب ولذا فإن استمرار الصراع الصينى السوفييتى معناه استمرار اتجاه الصين إلى تحقيق مزيد من الانفراج فى علاقاتها بالغرب والعالم الثالث ومن ناحية أخرى استمر القادة الأمريكيون العزف على وتر هذا الصراع الصينى السوفيتى لتحقيق مصلحة الولايات المتحدة وقد لخص كيسنجر يوما لأحد أصدقائه موقفه من الصراع الصينى السوفيتى قائلا:ـ لا يداعب جفونى النوم إذا شعرت بعودة الصداقة الروسية الصينية، إلى مجاريها، أو بقرب انفجار الموقف على حدودها فكان مصلحة الولايات المتحدة تتحقق ببقاء درجة التوتر الحالية فى العلاقات الصينية السوفيتية دون تصعيد فيها أو إنقاص منها
2 ـ البعد السلبى:ـ معارضة الصين للوفاق بين الدولتين العظميين أ ـ الرؤية الصينية المتميزة لحالة النظام الدولى المعاصرة:ـ يرفض القادة الصينيون الاعتراف بوجود حالة وفاق فى العلاقات الدولية عموما وفى العلاقات بين الدولتين العظميين على وجه الخصوص بل يرون أن الصراع المستمر بينهما سيؤدى إلى حرب عالمية جديدة أن ما يميز عالم اليوم، إذن، ليس وفاقا مستمرا، لكنه بدلا من ذلك هناك خطر الاقتراب نحو اندلاع حرب عالمية ثالثة وقد جاء فى كلمة مندوب الصين لدى الأمم المتحدة فى اجتماعات الجمعية العامة فى دورتها الثامنة والعشرين أكتوبر 1973، ودورتها الثلاثين فى سبتمبر 1975 يقول أحد بيانات تشياو كوان هوا المندوب الصينى لدى الأمم المتحدة:ـ ترى الحكومة الصينية أن عالمنا هذا يعيش فى اضطراب شديد وانقسام كبير وتحتدم كل التناقضات الأساسية فى العالم وخاصة التناقضات بين الإمبريالية والاستعمار من جهة وبين الأمم المظلومة والشعوب المضطهدة من جهة أخرى والتناقضات فيما بين الدول الإمبريالية ولا سيما بين القوتين العظميين أن حدة توتر الوضع فى الشرق الأوسط لم تخف مطلقا، ويمارس الاستعماريون والعنصريون القمع المسلح ضد شعوب أفريقيا بينما تطور شعوب أفريقيا مقاومتها المسلحة ضدهم، ويتوالى بلا انقطاع العدوان والنشاطات الهدامة والسيطرة والتدخل التى تمارسها القوتان العظميان ضد دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومن الناحية الاقتصادية تتوسع يوما بعد يوم الفجوة بين الدول الغنية المتطورة والدول الفقيرة النامية، وحتى الدول المتطورة تقوم بينها شتى التناقضات أيضا لذلك فإن الحالة بعيدة كل البعد عن الوفاق ب ـ المنطق الصينى فى معارضة الوفاق الأمريكى السوفيتى:ـ يقوم المنطق الصينى فى معارضة الوفاق الأمريكى السوفيتى على مجموعة من الحجج يمكن تلخيصها فى أن ذلك الوفاق لا يخدم السلام العالمى، بل أنه يزيد من حدة التوتر الدولى، ذلك لأنه محدود بإطار ضيق يتمثل فى إنه وفاق على توزيع مناطق السيطرة بين الدولتين الأعظم كما أن ذلك الوفاق لا يحقق مصالح شعوب العالم الثالث بل يضر بها، وفضلا عن ذلك فإنه وفاق يضر بمصلحة الصين حيث يدعم النفوذ السوفيتى فى قارة آسيا ونقدم فيما يلى شيئا من التفصيل لهذه الحجج:ـ الوفاق الأمريكى السوفيتى لا يخدم السلام العالمى:ـ ترى الصين أن الوفاق الأمريكى السوفيتى لا يدم السلام العالمى، ذلك أن الاتفاقيات المنشئة لذلك الوفاق اهتمت بتنمية مصالح الدولتين العظميين فقط دون أن تهتم بمصالح الدول الأخرى أو أهداف السلام العالمى فالاتفاقية التى وقعتها الدولتان العظميان الخاصة بمنع انتشار الحرب النووية نصت على التشاور العاجل بين الطرفين عن حدوث نزاع بين أى منهما والبلدان الأخرى أو حتى بين أى بلدين آخرين والصين ترى أن ذلك التشاور العاجل المزعوم لابد من أن يسفر عن أعمال تفرضها مصالحهما حيث أن الدولتين العظميين بما لديهما من ترسانات الأسلحة النووية يمكن أن تتدخلا متى أرادتا فى العلاقات بين كافة البلدان فى العالم وقد هاجمت الصينى الماوية أيضا مبدأ مراعاة كل من الدولتين العظميين لمصلحة الأمن الخاصة بالطرف الآخر وذلك على أساس المساواة بينهما الذى اتفقت عليه الدولتان فى عام 1972 وقالت أن هذا المبدأ يعنى صراحة التنازع على الهيمنة على العالم، فأينما يذهب طرف يصح للثانى أن يذهب فكان الوفاق الأمريكى السوفييتى فى الرؤية الصينية يستخدم كوسيلة لبسط نفوذ الدولتين العظميين على مناطق العالم المختلفة وإخضاع الإرادة السياسية للدول المتوسطة والصغيرة أى محاولة احتكار عملية توجيه العلاقات الدولية وتسييرها، وهو الأمر الذى يمكن أن يزيد من درجة التوتر الدولى بما يهدد السلام العالمى الوفاق الأمريكى السوفيتى لا يحقق مصالح العالم الثالث:ـ وقد انتقدت الصين بشدة موقف الدولتين الأعظم من قضايا تهم شعوب العالم الثالث ورأت أن اتحاد موقفهما إزاء هذه القضايا بالسلب إنما يمثل تأمرا من جانبهما معا على مصالح الشعوب التى تنتمى إلى العالم الثالث ويضرب القادة الصينيون مثالا على ذلك بموقف الدولتين العظميين المعارض لمطالبة بعض دول أمريكا اللاتينية بأن تصبح حدود المياه الإقليمية للدول مائتى ميل بحرى واعتبرت معارضتها لهذا المطلب عملا إمبرياليا يعمل على الحفاظ على بحار العالم واستنزاف ثرواتها كما نددت الصين بموقف الدولتين الأعظم التناسق من قضية استغلال شعوب العالم الثالث لثرواتها الطبيعية يقول مندوب الصين لدى الأمم المتحدة:ـ فى 2 يونيو 1972 طرح الاتحاد السوفيتى وحلفاؤه فى منظمة الأمم المتحدة للإنماء الصناعى مشروعا جاء فيه أن سيادة الدول النامية على مواردها الطبيعية تتوقف إلى حد كبير على قدرتها الصناعية على استغلال هذه الموارد وفى 22 أغسطس 1973 زعم أحد المندوبين السوفييت فى اجتماع لجنة قاع البحار المنعقد فى جنيف بأن الدول النامية حتى إذا حازت مائتى ميل بحرى من المياه لا تستطيع رفع إنتاج السمك نتيجة لافتقارها إلى التكنولوجيا وطاقة الصيد ومعنى كل هذه التصريحات أن من يملك قوة أكبر يتمتع بحقوق أكثر وهذا منطق إمبريالى سافر ويواصل المندوب الصينى حديثه متسائلا:ـ لماذا تعارض القوتان الأعظم بهذه الشدة موقف الدول المتوسطة والصغيرة فى توسيع المياه الإقليمية؟ إنه ليس من الصعب إدراك المآرب الخفية إذا ما نظر المرء إلى تنازع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى على الهيمنة البحرية فى البحر الأبيض المتوسط والخليج والمحيط الهندى والبحر الكاريبى والمحيط الهادى والمحيط الأطلنطى أو تسابقهما إلى إقامة القواعد فيها ونهب ثرواتها السمكية وموارد قاع البحر، فإذا توسعت المياه الإقليمية ضاقت بحارهما الخاصة التى تتغطرسان فيها الوفاق الأمريكى السوفييتى يدعم الاتحاد السوفييتى فى صراعه مع الصين الشعبية:ـ لعل من أهم أسباب معارضة الصين الماوية للوفاق الأمريكى السوفيتى هو تخوفها من أن يدعم ذلك الوفاق الطرف السوفيتى فى صراعه مع الطرف الصينى، سواء فى الصراع المباشر الذى يدور بين البلدين ببعديه المصلحى والأيديولوجى، أو فى الصراع بينهما فى صدد مسألة توازن القوى فى شرق وجنوب شرق آسيا فالصين تخوفت من أن يؤدى الوفاق الأمريكى السوفييتى إلى إتاحة فرصة أكبر للاتحاد السوفييتى ليتمكن من تجنيد قدر أكبر من موارده وطاقته وجهده فى مواجهته مع الصين وفضلا عن هذا، فأن الوفاق الأمريكى السوفييتى وفق إدراك القيادة الصينية يدعم النفوذ السوفييتى فى منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وبالتالى يحدث تغيرا ضخما فى توازن القوى القائم فى المنطقة ويمكن أن يهدد استقرارها وبالفعل فإن الانفراج فى علاقات السوفييت بالدول الغربية أتاح لهم توجيه مزيد من الاهتمام لتحقيق النفوذ السوفييتى فى واحد من أكثر الأقاليم الدولية أهمية بالنسبة للصين الشعبية ولنقرأ من كلمة رئيس وفد الصين فى الدورة الثامنة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة، يقول:ـ وهكذا التقطوا يقصد السوفييت فى الآونة الأخيرة من جديد البضاعة البالية، نظام الأمن الجماعى الآسيوى، المزعوم، التى قد أعرض عنها الناس منذ زمان بالدهشة، إنه يذكرنا بأمريكى يدعى جون فوستر دالاس الذى لملم فى عجلة بعد حرب الهند الصينية ما يسمى بمنظمة حلف جنوب شرقى آسيا التى وجهت حربتها إلى الصين أن الاتحاد السوفييتى دولة أوربية وقطب حلف وارسو، فلماذا هو حريص إلى هذا الحد على الاهتمام بالأمن الجماعى للدول الآسيوية؟ هل ذهب شبح دالاس إلى قصر الكريملين؟ وتجرى خلاصة المنطق الصينى فى رفض الاعتراف بوجود وفاق دولى على النحو التالى:ـ ترى الصين أن الإمبريالية تعنى الحرب، وأن خطر الحرب قائم ما دامت الإمبريالية قائمة واليوم وفى الوقت الذى تحتدم فيه مختلف التناقضات الأساسية فى العالم، فإن خطر حرب عالمية جديدة لا يزال قائما، ولذا على شعوب كافة البلدان أن تكون مستعدة وألا تضلل ـ بظاهرة كاذبة من الوفاق السطحى المؤقت
ثانيا:ـ مدى فاعلية الموقف الصينى من التأثير على الوفاق الدولى:ـ بداية نقرر أن الازدواجية التى تميز موقف الصين من الوفاق الدولى تحد من فاعليته تأثيره على ظاهرة الوفاق الدولى ثم أن فاعلية الدور الصينى فى هذا الصدد ترتبط بمدى فاعلية التحرك الخارجى الصينى وتأثيره على توجيه العلاقات الدولية ورغم أن المجتمع الصينى قد انفك من إسار الإطار المغلق، الذى فرضته حول ذاته طوال عشرين عاما بعد نجاح الثورة الماوية لينفتح على العالم الخارجى ويقيم علاقات إيجابية مع معظم دول العالم مسهما فى تكوين أحد الاتجاهات التى تميز التطور الجديد فى النظام الدولى المعاصر أى بروز قوى كبرى تستعد للعب دور فعال إلى جانب القوتين الأعظم رغم ذلك، إلا أن الصين لم تعمد إلى صياغة سياسة خارجية تشمل كل أرجاء العالم، ربما لأنها لم تصل بعد إلى طور الدولة الأعظم التى يكون لديها الطاقة التى تمكنها من أن يكون لها مصالح عالمية شاملة أرجاء الكرة الأرضية ولعل عوامل السياسة الداخلية التى تعد السياسة الخارجية امتدادا وانعكاسا لها من بين أهم المؤثرات فى هذا المجال فالمواطن الصينى لا يمكن أن يضحى بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية من أجل أن يسهم فى لعب دور عالمى فعال ذلك أن فى تحديد أولوياته يضع البناء الداخلى فوق أى اعتبار آخر وتعبيرا عن ذلك تتسم السياسة الخارجية الصينية بالحذر والتقدم التدريجى المحسوب فى الانتقال من دائر إلى أخرى من الدوائر المتاحة والممكنة لتحركها فى مواجهة العالم الخارجى الخلاصة أن سياسة الصين، لا تزال حتى الآن غير قادرة على أحداث تأثير فعال خاصة بالسلب على السياسة الخارجية العالمية القوية التى تستطيع الإبقاء على الأوضاع الدولية القائمة أو تعديلها، أو تغيرها
ثالثا:ـ مثالية التصور الصينى للوفاق الدولى:ـ قدمت الصين الماوية تصورا مثاليا لمتطلبات قيام حالة الوفاق كسمة أساسية للعلاقات بين الدول وقد وردت عناصر هذا التصور المثالى فى حديث أحد المسئولين الصينيين على النحو التالى:ـ أننا ندعو دائما إلى وجوب المساواة بين بلدان العالم أجمع كبيرة كانت أم صغيرة وإقامة العلاقات الدولية الطبيعية بين جميع البلدان بصرف النظر عن نظمها الاجتماعية، ووفقا للمبادئ الخمسة من الاحترام المتبادل لوحدة الأراضى والسيادة وعدم الاعتداء، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمى وتسوية المنازعات الدولية سلميا على أساس هذه المبادئ دون اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد بها وينبغى أن ينطبق ذلك على العلاقات فيما بين الدول الكبرى، وعلى العلاقات بين الدولة الكبيرة والدولة الصغيرة أيضا، وبالأحرى على العلاقات بين الدولة القوية والدولة الضعيفة أو بين الدولة الغنية والدولة الفقيرة أن المبادئ المذكورة أعلاه فى رأينا هى الحد الأدنى من مبادئ المساواة فى العلاقات الدولية كما أنها الطريق الصحيح لتخفيف حدة التوتر الدولى أن ذلك التصور المثالى للوفاق الدولى إنما يقوم على مجموعة من المبادئ النظرية العامة سبق أن تضمنتها مواثيق دولية هامة أهمها ميثاق الأمم المتحدة دون أن يؤخذ بها تماما فى التوجيه الفعلى للعلاقات الدولية بل أن محاولة أعمال هذه المبادئ بشكل دائم يعنى تجاهل واقع هذه العلاقات وتطورها الناتج عن الصراع بين إيرادات الدول ولا شك أن الصين الماوية كانت تدرك هذا الواقع جيدا لكنا نرى أن هناك مجموعة من الاعتبارات تكمن خلف إعلانها لهذا التصور النظرى كأسلوب للتوصل إلى وفاق دولى حقيقيى، من بينها إنه رغم أن الصين تنتمى إلى مجموعة الدول الكبرى إلا أنها لما تزل بعد بعيدة عن الممارسات التقليدية للدول الكبرى خاصة الدولتين العظميين هذه الممارسات التى تتمثل فى فرض إرادة هذه الدول على أطراف اللعبة الآخرين، أن أمكن ذلك فالمجتمع الصينى لم ينته بعد من استكمال بناء ذاته داخليا حتى يتجه إلى الممارسات الخارجية المألوفة لدى مجتمعات الدول الكبرى الأخرى، وفى كلمات أخرى، أن المجتمع الصينى لم يصل بعد إلى المرحلة التى تفيض فيها قوته القومية خارج حدوده، لأن تلك القوة لا تزال تجد فى الإطار الداخلى للمجتمع الصينى مجالا كافيا للتعبير عن ذاتها وإذا جاز لنا التعبير بعبارة أخرى يمكن أن نقول أن الدول الكبرى تمر بمراحل متعاقبة فى تطورها الاجتماعى والسياسى إلى أن تصل إلى مرحلة النمو القصوى التى لابد وأن تمارس أثناءها وظيفة التدخل للمشاركة فى توجيه علاقات غيرها من الدول، أى بحيث تصل إلى مرحلة ممارسة دور إمبريالى ونحن نرى الصين لا تزال خارج حدود هذه المرحلة ومن ثم فهى تعلن تبنيها لتصورات قد تكون مثالية حول مسائل العلاقات الدولية تعكس فيها طبيعة المرحلة التى تمر بها رابعا:ـ نظرة مستقبلية:ـ الصين ما بعد ماو والوفاق الدولى:ـ ليس هدفنا هنا هو إجراء تنبؤ دقيق باحتمالات الاستمرارية أو التغيير فى موقف الصين، بعد وفاة ماوتسى تونج، إزاء ظاهرة الوفاق الدولى فالواقع إنه إزاء ندرة المعلومات يصعب القيام بعملية التنبؤ الذى تتوفر له درجة معقولة من الدقة والعلمية لذا، سنهتم بدرجة أكبر بوضع مجموعة من التساؤلات التى ستحدد الإجابة عليها تطور موقف الصين من الوفاق الدولى.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق